«تغيير العقل»

نشر في 30-03-2015
آخر تحديث 30-03-2015 | 00:01
أتصور أن كتاب «تغيير العقل» يعيننا على فهم أفضل للدوافع والمحركات والبواعث التي تدفع شاباً، في عمر الزهور، مقبلاً على الدنيا ومباهجها، إلى الانجذاب إلى «الفكر المتطرف»، ومن ثم الزهد في الدنيا وزينتها، وكراهية المجتمع، ومحاربة النظام السياسي القائم، والعداء للحضارة، وعدم «قبول الآخر» لدرجة تفجير الذات!
 د. عبدالحميد الأنصاري تتفاوت المجتمعات الإنسانية المعاصرة، رقياً وازدهاراً، وعلماً ومعرفة، تبعاً للعقليات السائدة بين أفرادها جمهوراً ونخباً، ومع أن العقل الإنساني واحد فلا فرق بين عقل شرقي وآخر غربي، ولا عقل إسلامي وآخر غير إسلامي، إلا أن العقليات أعني "الذهنيات" تتفاوت، تبعاً لاختلاف الثقافات السائدة في المجتمعات، والتي تصوغ العقول وتشكل الأفكار، فثقافة أي مجتمع هي عقله، ونحن الأفراد نتشرب ونمتص هذه الثقافة من البيئة الاجتماعية المحيطة تلقائياً عبر عملية "البرمجة" الثقافية كما يقول المفكر السعودي إبراهيم البليهي، والمعبر عنها قديماً "التعليم في الصغر كالنقش في الحجر"، وهي التي تحكم تفكيرنا وتشكل تصوراتنا لأنفسنا وللآخر، كما تحدد طريقة تفكيرنا في حل مشكلاتنا ومعالجة أمورنا.

 لطالما تساءل المفكر البحريني د. محمد جابر الأنصاري: لماذا نحن- المسلمين- أمة تملك أسمى المبادئ الإنسانية والحضارية، لكننا نعيش واقعاً يتسم بأوضاع في غاية السوء؟! وهو تساؤل محق ردده كثيرون، والجواب: أننا لم نفلح في تحويل هذه المبادئ السامية إلى ثقافة مجتمعية، تغير عقولنا وأفكارنا وترشد سلوكنا وعلاقاتنا، لنصنع واقعاً أفضل، ولكن هلا تساءلنا: كيف يتم التغيير، تغيير العقول والأفكار والتصورات؟

وما تأثير البيئة المحيطة: فناً وعلماً ومعرفة، في تغيير عقولنا وعقول الآخرين؟

وكيف نغير واقع مجتمعاتنا الذي نشكو منه إلى واقع أفضل لنا ولمستقبل أولادنا؟

هذه التساؤلات وغيرها هي التي دفعت الدكتورة معصومة أحمد إبراهيم، أستاذة علم النفس التربوي بجامعة الكويت، للإجابة عنها حينما تصدت- بجهد محمود- إلى ترجمة كتاب، يعد من أفضل الكتب في مجال "التغيير"، وكيفية حصوله، وخصوصاً تغيير الأفكار، هذا الكتاب بعنوان "تغيير العقل"، الفن والعلم في تغيير عقولنا وعقول الآخرين، لمؤلفه "هواردغاردنر" أستاذ الإدراك المعرفي بهارفارد، وهو رائد معروف في الدوائر التربوية ببحوثه عن أنواع "الذكاء المتعدد"، وبنقده فكرة وجود ذكاء إنساني وحيد، يمكن تقويمه بوساطة أدوات نفسية قياسية، وله المئات من المقالات و20 كتاباً مترجماً إلى ٢٢ لغة عالمية، وقد حصل على درجات فخرية من 20 معهداً وجامعة.

أهمية هذا الكتاب، لنا نحن، العرب والمسلمين- من وجهة نظري- أننا اليوم في كل مجتمعاتنا العربية والإسلامية، نعاني ظاهرة "الفكر المتطرف" الذي استحوذ على عقول قطاع من شبابنا وأفكارهم، وجندهم لمشاريع الهدم والقتل والتدمير.

 أتصور أن الكتاب يعيننا على فهم أفضل للدوافع والمحركات والبواعث التي تدفع شاباً، في عمر الزهور، مقبلاً على الدنيا ومباهجها، إلى الانجذاب إلى "الفكر المتطرف"، ومن ثم الزهد في الدنيا وزينتها، وكراهية المجتمع، ومحاربة النظام السياسي القائم، والعداء للحضارة، وعدم "قبول الآخر" لدرجة تفجير الذات فيه!

لماذ يتحول هذا الشاب الواعد إلى قنبلة بشرية رخيصة؟!

إنها إذاً سطوة الأفكار العدمية على عقول لم تنجح مناهج التربية والتعليم والدعوة والإعلام في تحصينها!

تقول الباحثة المترجمة في المقدمة: التغيير يحدث في جميع المجتمعات، لكنه يختلف في سرعته وعمقه واتساعه، فقد كانت المجتمعات القديمة تعيش على نمط واحد توارثته الأجيال دون تغيير يذكر، ولما ظهر العلم الحديث والأفكار الجديدة، أصبح التغيير أحد مقومات حياتنا، وأدى هذا إلى نظرة جديدة للكون والحياة والإنسان، وأصبح الكون مفتوحا وفي حالة تشكل دائم، مما حتم على الإنسان إذا أراد أن يتكيف معه أن يكون في حالة تغير وتشكل دائمين، طبقاً لما أكده علماء "دراسات الذكاء" من أن الذكاء هو "القدرة على التكيف"، وهكذا فإن الأفراد لكي يستطيعوا تغيير أفكارهم ومفاهيمهم وسلوكهم ومهاراتهم فإنهم بحاجة إلى دعم ومساندة من البيئة المحيطة: الأهل، والأصدقاء، والأزواج، إلى جانب المختصين في العلاج النفسي، وقد يكون الأفراد الذين يريدون التغيير يتمتعون بذكاء قادر على إحداث التغيير في ذواتهم بقوة الإرادة والبصيرة والعقل المتقد والصبر، أو أنهم يجدون أمامهم نماذج وأبطالاً يتباهون بها، قد تحدث التغيير في شخصياتهم.

ومن أجل كل هذا، جاء هذا الكتاب ليقدم الكثير من الشخصيات التاريخية والعلمية والسياسية التي ألهمت الملايين "التغيير" مثل: غاندي، وأينشتاين، وتاتشر... إلخ، مع ملاحظة أن الكثيرين لا يعرفون أنفسهم كما يعتقدون، مع أن معرفة النفس، كما قال سقراط "اعرف نفسك" بداية طريق التغيير والإصلاح.

وتستطرد الباحثة لتقول: إن هذا الكتاب يعالج ظاهرة التغيير وطبيعة أنواعه، وتشير الى أن هذه المسألة تم إهمالها في النظريات التي تعالج أساليب التغيير فترة طويلة، كما يقدم الكتاب فهماً عميقاً لمختلف مظاهر السلوك الفردي والجماعي، ويفتح الطريق أمام الآخرين، ليس فقط كي يفهموا المشكلات التي يعيشون فيها، ولكن أيضاً الحلول الجديدة للمآزق التي وجدوا أنفسهم فيها.

وتشرح الباحثة، أن دافعها لترجمة الكتاب هو تقديم خبرات ونماذج ومفاهيم قيمة إلى الإنسان في مجتمعنا العربي، ذلك أننا نحتاج إلى إحداث تغيير كبير في كثير من الميادين، وخصوصاً في مجالات الأفكار والمفاهيم والسلوك والقيم والمهارات، وتختم الباحثة مقدمتها القيمة بقول الله تعالى "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".

ختاماً: لا يتسع هذا المقال القصير لعرض محتويات الكتاب، ولكنها محاولة لتسليط الأضواء عليه، ودعوة لقراءته والإفادة منه في مجال تغيير العقول والأفكار والتصورات وصولاً إلى مستقبل أكثر رقياً وازدهاراً.

* كاتب قطري

back to top