منذ اندلاع أزمة الديون السيادية الأوروبية في عام 2009، تساءل الجميع عما قد يحدث إذا تركت أي دولة منطقة اليورو، وفي البداية، كانت المناقشة تركز على البلدان التي ضربتها الأزمة: اليونان، أو ربما البرتغال، أو إسبانيا، أو إيطاليا. ثم نشأت مناقشة ظنية حول ما قد يحدث إذا تركتها بلدان تتمتع بفائض قوي، ولنقل فنلندا أو إسبانيا.

Ad

وعبر كل ذلك، نشأ إجماع على أن خروج دولة واحدة من الممكن أن يشعل شرارة انهيار أوسع نطاقا، كما حدث عندما انهار ليمان براذرز في عام 2008، والآن، في سويسرا، نشهد على وجه التحديد بعض مظاهر المخاطر التي قد تنشأ إذا تركت إحدى الدول ذات الفائض منطقة اليورو.

في سبتمبر 2011، ربطت سويسرا عملتها باليورو بهدف وضع سقف للارتفاع الكبير في قيمة الفرنك السويسري في أعقاب الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، وبالتالي، أصبحت سويسرا عضواً مُلحقاً مؤقتاً في الاتحاد النقدي الأوروبي، ولكن في الخامس عشر من يناير قرر البنك المركزي السويسري فجأة التخلي عن ربط عملته باليورو.

من الواضح أن الخروج من اتحاد عملة حقيقي أمر أكثر تعقيداً وخطورة من إنهاء ترتيبات مؤقتة لسعر الصرف؛ وسوف تتضخم التأثيرات المترتبة على هذه الخطوة إلى حد كبير، ورغم هذا فإن الخطوة السويسرية تكشف على الأقل بعض الشكوك التي قد يثيرها الخروج الكامل.

لم يكن البنك المركزي السويسري مرغماً بفِعل سلسلة متواصلة من المضاربات، ولم يكن مدفوعاً بأزمة مالية، ومن الناحية النظرية كان بوسع إدارة البنك المركزي الأوروبي الاحتفاظ بسعر الصرف وشراء أصول أجنبية بلا حدود. ولكن الانتقادات الداخلية لمحاولة البنك المركزي الأوروبي تكديس احتياطيات كبيرة من العملة الأجنبية (أصول اليورو) كانت في تصاعد مستمر.

وبشكل خاص كان المحافظون السويسريون كارهين للمخاطر التي تعرض لها البنك المركزي السويسري، وانطلاقاً من مخاوفهم إزاء افتقار سندات حكومات منطقة اليورو إلى الأمان، حاولوا حشد الرأي العام لمطالبة البنك المركزي السويسري بالحصول على احتياطيات من الذهب بدلاً من ذلك، بل حتى فرض عقد استفتاء بشأن هذه المسألة، ورغم أن المبادرة للمطالبة بحصة ثابتة في الاحتياطيات من الذهب فشلت، فإن احتمالات التيسير الكمي الواسع النطاق من البنك المركزي الأوروبي، جنباً إلى جنب مع انحدار اليورو في الآونة الأخيرة في مقابل الدولار، كانت سبباً في زيادة حدة الضغوط السياسية للتخلي عن ربط العملة.

وفي حين كان خبراء الاقتصاد بارعين في وضع نماذج الهجمات المالية، فإن الدراسة لم تكن وافية للتوقيت الذي قد تفوق عنده الضغوط السياسية الاحتمال فيستسلم البنك المركزي لها، فقد أعلن البنك المركزي السويسري على سبيل المثال الالتزام بالربط قبل أيام فقط من إنهائه، ونتيجة لهذا فإن الأسواق سوف تتردد الآن في تصديق تصريحات البنوك المركزية حول سياستها في المستقبل، وسوف تكون التوجيهات المسبقة (وهي من الأدوات الرئيسية في مرحلة ما بعد الأزمة) أكثر صعوبة.

هناك سابقة تاريخية لانتصار الضغوط السياسية والتحرك السويسري الأخير، ففي أواخر ستينيات القرن العشرين، اضطر البنك المركزي الألماني لشراء أصول دولارية من أجل منع قيمة المارك الألماني من الارتفاع، والحفاظ على سلامة سعر صرف العملة الثابت، وقد ركزت المناقشة في ألمانيا على المخاطر التي تتعرض لها ميزانية البنك المركزي الألماني، فضلاً عن الضغوط التضخمية التي ترتبت على ربط العملة، وكان بعض المحافظين الألمان في ذلك الوقت يفضلون شراء الذهب، ولكن البنك المركزي الألماني وعد بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي بأنه لن يضع الدولار تحت ضغوط تدفع قيمته إلى الانخفاض عن طريق بيع احتياطياته في مقابل الذهب.

وفي عام 1969، أعادت ألمانيا تقييم المارك الألماني من جانب واحد، ولكن ذلك لم يكن كافياً لمنع تدفقات العملة الأجنبية، واضطر البنك المركزي الألماني إلى الاستمرار في التدخل، ومن ثَم فقد واصل خفض أسعار الفائدة، ولكن التدفقات استمرت، وفي مايو 1971 قررت الحكومة الألمانية- ضد رغبة البنك المركزي الألماني- التخلي عن الربط بالدولار تماماً وتعويم العملة.

وكانت الغَلَبة للسياسة على التزامات البنك المركزي، وفي غضون ثلاثة أشهر، دمرت التداعيات النظام النقدي الدولي بالكامل، وقرر الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون فصل الدولار عن معيار الذهب، وانهارت مصداقية نظام التزامات البنوك المركزية بالكامل، وأصبحت السياسة النقدية الدولية غير مستقرة على الإطلاق، وارتفعت قيمة المارك الألماني، وأصبحت الحياة بالغة الصعوبة بالنسبة إلى المصدرين الألمان.

واليوم أصبحت التداعيات العالمية المترتبة على تحركات البنوك المركزية الكبرى أكثر وضوحاً مما كانت عليه في عام 1971، فعندما تحرك البنك المركزي الألماني من جانب واحد، لم تكن البنوك الألمانية دولية للغاية، ولكن الآن أصبح التمويل عالميا، وهذا يعني ضمناً تعرض الميزانية العمومية بشكل كبير لتقلبات العملة.

تمول البنوك السويسرية نفسها بالفرنك السويسري، لأن كثيرين في كل مكان يريدون الاستفادة من أمن الأصول المقومة بالفرنك، ثم تستحوذ البنوك السويسرية على الأصول في مختلف أنحاء العالم بعملات أخرى، وعندما تتغير أسعار الصرف فجأة تواجه البنوك خسائر كبيرة، وهي نسخة واسعة النطاق من استراتيجية أصحاب المساكن المجريين الساذجة التي تتمثل بالاقتراض بالفرنك السويسري لتمويل رهونهم العقارية.

ورغم أن البنك المركزي السويسري أطلق العديد من التحذيرات بأن ربط الفرنك السويسري باليورو لم يكن دائما، ورغم أنه فرض معدل رأسمال أعلى على البنوك، فإن فك الربط باليورو كان صدمة كبيرة، وهبطت أسهم البنوك السويسرية بوتيرة أسرع من هبوط المؤشر السويسري العام.

والواقع أن المخاطر التي خلقها قرار البنك المركزي السويسري- مع انتقالها عبر النظام المالي- تخلف عواقب جسيمة من خلفها، ومن الواضح أن التأثيرات السلبية على الاقتصاد السويسري- عبر تضاؤل القدرة التنافسية لصناعات سويسرا التصديرية (بما في ذلك السياحة والأدوية)- ربما بدأت تثبت بالفعل أن التخلي عن الربط باليورو لم يكن فكرة طيبة.

ولكن العواقب لن تقتصر على سويسرا، وبعد سنوات من التساؤل حول ما إذا كان خروج دولة صغيرة ضعيفة مالياً مثل اليونان قد يقوض اليورو، بات لزاماً على صناع السياسات أن يتعاملوا مع صدمة أكبر نابعة من خروج دولة صغيرة قوية مالياً وليست حتى عضواً في الاتحاد الأوروبي.

هارولد جيمس & ماركوس برونرماير

* ماركوس برونرماير أستاذ الاقتصاد ومدير مركز بندهايم للتمويل في جامعة برينستون، وهارولد جيمس أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»