هذا العنف الرهيب الذي يجتاح معظم المجتمعات العربية ويتهدد أمنها واستقرارها ويسعى إلى بث الفوضى والاضطرابات وزعزعة أنظمتها وتقويض بنيانها، ويدفع شبابها الغر نحو مهاوي الهلاك تحت عناوين "الجهاد" والدفاع عن "شرف الأمة" و"نصرة الإسلام" تعطشاً للجنّة ولقاء حورها عبر بحر من دماء الأبرياء الذين يتساقطون كل يوم على امتداد الساحة العربية، هذا العنف لا بد أن يحملنا مسؤولية ما حدث ويحدث.
ترى: لماذا ساءت الأحوال وتدهورت الأوضاع؟ ولماذا شقيت مجتمعاتنا بشبابها؟ ولماذا ترسخ التعصب والكراهية في البنية المجتمعية؟ ولماذا اشتد التطرف المنسوب إلى الدين، والدين منه براء؟ ولماذا أصبح العنف مرضاً مستشرياً في النسيج المجتمعي؟ وماذا كنا نفعل على امتداد نصف قرن: تربية وتعليماً وتثقيفاً وتنمية وإعلاماً؟وأين دور البيت وهو المحصن الأساسي والأول في تحصين الناشئة وتقوية مناعتها تجاه أمراض التطرف والتعصب والكراهية؟ وأين دور المدرسة والمعلم في عمليتي "التحصين" و"المناعة" الضروريتين للطلاب؟ وأين دور التنظيمات المجتمعية والرسمية من مجتمعات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية والثقافية في وقاية الناشئة من أمراض الفكر المنحرف؟ وأين دور الإعلام في تعزيز المناعة الفكرية للرأي العام؟ولماذا أخفقنا بعد نصف قرن من انتشار التعليم والتحديث وخطط التنمية والتطوير، وانفتاح على الغرب المتقدم والأخذ بأساليبه ونظمه وتقنياته وبخاصة في مجال الإعلام؟ ولماذا فشلنا في تكوين جيل من الشباب، متصالح مع نفسه ومجتمعه والعالم، يعي "ثقافة الحوار" ويمارسها بدلاً من ممارسة "ثقافة العنف"؟ ولماذا لم ننجح في ترشيح مبدأ "قبول الآخر" المذهبي والديني والسياسي، والتعايش معه بدلاً من إقصائه وتصفيته ثم الظهور في أشرطة الفيديو ووسائل التواصل للتباهي بالعنف الوحشي؟!لقد تغلغل التطرف في عمق التركيبة المجتمعية، ووصلنا إلى حد أن أصبح للتطرف سحر جاذب يأسر شبابنا ويصطادهم لمخططاته العدوانية! لنتساءل أولاً: ما العنف؟ كثيرون يعتقدون أنه استخدام للقوة المادية باليد أو السلاح، ولكن ذلك أقصى درجات العنف، فالعنف يبدأ "فكراً" يزرع في الرأس ويغرس في النفس، يبدأ فكراً يكره الحياة والأحياء، يُشحن به العقل أولاً، ثم يغرس هذا "الفكر العدواني" ثانياً في نفسية غير سوية مصابة بإحباطات شتى. وبعقد التنشئة الأولى ترى العالم عدواً متآمراً يجب مواجهته ومقاطعته، وترى المجتمع جاهلياً ضالاً يجب مفاصلته ثم هدايته وأسلمته وفرض الشريعة عليه كرهاً، وترى الدولة القائمة كياناً تجزيئياً معوقاً لوحدة الأمة، يجب محاربتها وإزالتها بقوة السلاح، وتكون النتيجة أن هذا الفكر العدواني البائس يتمكن من هذه النفسية القلقة ويستحوذ عليها، ومن ثم يطوعها لخدمة أهدافه العدوانية. ثم نأتي إلى بيئات تشكل حواضن اجتماعية لهذا الفكر العدواني، ترعاه وتتعاطف معه نتيجة لممارسات تراكمية طويلة من منابر ومدارس ومناهج زرعت فكراً تكفيرياً في البيئة المجتمعية، وشحنت العقول والنفوس بثقافة الكراهية على امتداد عقود طويلة، ها نحن اليوم نجني ثمارها المرة المسمومة. لقد تمكن "الفكر العدواني" من نفوس أبنائنا وعقولهم بسبب غيبة "ثقافة الحوار"، ترى من المسؤول؟ نحن جميعاً مسؤولون، وإن لثقافة الحوار بنياناً يقوم على 3 أركان:1- البيت: مسؤولية البيت أساسية، لأنه الخلية الأولى للتنشئة، يتشرب الطفل الثقافة المجتمعية فيها، ويمتصها امتصاصاً تلقائياً طبقاً للمفكر السعودي إبراهيم البليهي، الأب لا يشاور الأم إلا قليلاً، وهما لا يشاوران أولادهما ولا يستمعان إليهم، ولا يشجعانهم عن التعبير عن آرائهم بحرية، هما في شغل شاغل عنهم وعن أحلامهم، يفتقدون نموذج الأب القدوة، لقد كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- نموذجاً لأدب الحوار، يشاور أهل بيته، ويشاور صحابته، وما اتخذ قراراً إلا بمشاورتهم، فقال له ربه "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، فأين البيت العربي من أدب الحوار؟ ما زال البيت العربي يكيل بمكيالين، فالأنثى لا تجد ترحيباً مماثلاً لأخيها حين قدومها إلى هذه الدنيا، وما زال هذا البيت يعاني التسلط، فكيف نتوقع سيادة قيم الحوار البناء في البيت الكبير (المجتمع) إذا كانت غائبة عن البيت الصغير؟2- المدرسة: المفترض فيها أن تعزز عمل البيت الصالح، ولكن مدارسنا مازالت تعتمد "الأحادية" و"التلقين" والتركيز على الماضي، وتركز على الحفظ لا التفكير، وعلى الطاعة والامتثال لا الابتكار والإبداع، وخطابنا التعليمي خلال نصف قرن لم يتجاوز 3 مواقف: تمجيد المآثر والأمجاد الماضية مع بخس حق الآخرين فيها، وتهميش المرأة وإبعادها عن الحياة العامة، وإقصاء الآخر المختلف ديناً أو طائفياً أو مذهبياً أو قومية، ولايزال الآخر في تعليمنا ومنابرنا مريباً ومتآمراً، وهذا الخطاب التعليمي ينشئ عقلية لا تؤمن بثقافة الحوار، ويسهل انزلاقها إلى مهاوي التعصب والكراهية والتكفير وتقبل ثقافة الموت، ولن يستطيع تعليمنا أن يكون رافداً لثقافة الحوار وقيم الديمقراطية وقبول الآخر إذا لم يتخلص من علله المعوقة وأمراضه المزمنة!3- الإعلام: وبخاصة الفضائيات المتكاثرة، عليها تعزيز ثقافة الحوار، فلا يكون همّ الإعلامي الإثارة بهدف تصيد المُشاهِد العاطفي، ومخاطبة غرائزه الأولية على حساب ثقافة الحوار وقيم التسامح وقبول الآخر.*كاتب قطري
مقالات
من «ثقافة العنف» إلى «ثقافة الحوار»
10-11-2014