لعلها من المرات القليلة التي أجد نفسي فيها حائرة إزاء إبداء رأي حول كتاب! وهذه المرة إزاء رواية (زاجل) لخالد النصرالله، وفي محاولة لاستجماع خيوط الرواية المراوغة أحاول أن أقف عند الإشارات والالتماعات المتناثرة، ومنها إهداء المؤلف الخاص لي والذي جاء كالآتي: "دائماً هناك رغبة ملحّة أنْ تعود حيث أتيتَ". ومن هذا التلميح اعتقدتُ أن الإهداء إشارة منطقية إلى (الزاجل) وإلى ما يفعله هذا الحمام عادة، وهو العودة إلى منازله الأولى أنى شطّ به المزار.
بيد أن الانطباع الأول ليس هو بالضرورة حجر الأساس في أي عمل، إذ تبقى له دهاليزه الأخرى التي تستحق الاكتشاف والتوغل. وهذا ما تفعله بنا شخصية (بيشويّ) المصري القبطي الذي عاش عمره الغض في رعاية ولي أمره الكويتي، والذي لم يكن مجرد حمامة زاجلة تتوق لعشّها الأول حيث مسقط رأسه، إنما كان وجوده القَلِق المربك فاتحة لتساؤلات وتهاويم ومواجع نفسية حول مفاهيم الهوية والانتماء والدين، وليس مجرد حنين ساذج إلى مجهول. ويمكن للقارئ أن يلحظ تلك الوشيجة النفسية بين (بيشويّ) الذي نظنه فتى في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره، وبين وليّ أمره أو حاضنه الكويتي، والتي تتمثل في التشابه في الإحساس بالانبتات والشعور بالتوحّد الذاتي بعيداً عن وشائج العائلة والدم وما تجرّه من تصادمات وركامات من الذكريات والأحزان، إذ يبدو أن الاثنين مكتفيان بالفراغ والوحدة والعيش المتقشّف في شقة سكنية ومكان لا يؤمه إلا العزّاب والمنقطعون ومقتنصو المآرب العاجلة. وإن كان (العم) يبدو مستقراً وراضياً بجو السكينة والفراغ للقراءة والكتابة والتأمل، فإن (بيشوي) بعمره الغضّ لايزال ممتلئاً بالأسئلة وجائعاً لمعرفة المزيد حول أبيه، الذي مات في (حادثة الشاليه)، وحول أمه التي لا يعرفها، وحول مسقط رأسه الذي يلفه الغموض، وحول حقيقة انتمائه إلى أي بيئة وأي جذور وأي دين. وإن كان هناك ما يمكن أن يُقال عن شخصية العم، فلعله يتمثل في مفهومه للحب في بعده الإنساني الأشمل، فرغم انبتاته عن العائلة، وطلاقه للمرأة التي أحبها، وذكرياته الموجعة عن حادثتي موت أخيه وموت حارسه (جرجس)، ومحاولته تحييد عاطفة (هبة) جارته، إلا أنه كان يؤطر جلّ مواقفه ومشاعره بالحب والحدب رغم كل شيء. وهكذا يمكن تفسير احتضانه لـ(بيشويّ) ورعايته له، ثم ترك الخيار له في البقاء أو العودة إلى مسقط رأسه، أليس هو القائل في ختام الرواية "الحب يبقى عندما يرحل"، وكأن الإبقاء على من نحبهم قسراً هو لون من القتل لهذا الحب لا محالة. لعل من سمات رواية (زاجل) أنها لا تشعرك بوجود أحداث تنمو بترتيب زمني، إنما تجدكَ واقفاً عند حيثية وحيدة تنداح بشكل دائري وثابت في ذات المكان، وإن خرجتْ بكَ إلى حيثيات أخرى فلكي تضيء لك لمحة عابرة أو ذكرى طواها النسيان، ثم سرعان ما تعود بك إلى المكان إياه: شقة سكنية في برج يطل على البحر. و(بيشويّ) يذوّب أيامه في هذا المكان الممل، بين تحضير أكواب الشاي والتأمل في اللوحات التشكيلية والتخيلات الفانتازية حول تحوله إلى شبح أو ضوء قادر على اختراق الأشياء ورؤية ما خلالها. إلى أن تأخذه التأملات إلى محاولة اكتشاف معلومات حول أبيه وظروف تنشئته الغامضة وخلفيته الأسرية، فيضطر إلى التسلل إلى مكتب (عمه) لسرقة المذكرات والخواطر التي يعكف على كتابتها، إذ ربما يجد شيئاً يشفي غليل تساؤلاته، بيد أن المحاولة لم تثمر عن شيء ذي بال، وظل (بيشويّ) يتخبّط في حيرته وتردده بين البقاء عند (عمه) أو السفر إلى (أسيوط) كما اقترح العم دون أمر أو ضغط من جانبه. وهكذا تنتهي الرواية -كما ابتدأت– بتلك الحيرة الوجودية السادرة، حيث الأشياء تبدو في حالة سكونية ودوام، وحيث الزمان والمكان يتآمران على هذه الديمومة القاتلة والأبواب المغلقة. ولعل هذه الحال من الثبات في بعدها النفسي هي ما عبّر عنها الكاتب في تقديمه للرواية حين كتب:"المكان دون الزمان أصم. الزمان دون المكان عدم. من فصل الظرفين إذن؟!".
توابل - ثقافات
زاجل
10-02-2015