عندما نحب.. يصادر الحب وجوهنا بالإضافة إلى قلوبنا، يستبدلها بوجوه أخرى لا تشبهنا، تلك أعقد إشكالياتنا مع الحب، وهي سبب نقمة بعضنا منه والحقد عليه.

Ad

 الحب عادة يفعل ذلك كنوع من إعادة تأهيلنا كشرط لدخول جنته، يطهّرنا الحب من وجوهنا المألوفة لنكون صالحين، للتماهي مع دهشة عوالمه وسحرها، الحب يصادر وجوهنا المطفأة كرماد بارد، ويمنحنا وجوهاً من بللور، وجوه ليس بها عيوننا التي اعتدنا عليها، وإنما عيون أخرى ترى ما لا تراه عيوننا السابقة، ترى ما يصوره فقط لها الحب، عيون قادرة على رؤية شعاع نجمة تحت رداء الليل الحالك، والماء في رحم الأرض، واللون الأخضر في أنفاس غصن آيل للذبول، عيون ترى إثم كل رصاصة مقابل كل ريشة تسقط من الفضاء، وخطيئة كل سكين ترتّل فاتحة جرح، عيون قادرة على تمييز الخيط الأبيض من الأسود للحياة في كرنفال الظلمة.

وجوه ليس بها أنوفنا التي وُلدنا بها، وإنما أنوف أخرى قادرة على اقتفاء خطى العطر، كقصاص أثر محترف، تُسمّي كل زهرة باسمها من خلال رائحتها، أنوف تميز جيداً الفرق بين شهوة الموت المنبثقة من رائحة دخان بندقية، وشهوة الحياة المنبثقة من رائحة عرق جسد، وبين رائحة الدم المتخثر في جثة أمنية، ورائحة الماء الجاري في شرايين أغنية!

وجوه ليس بها سَمْعنا الذي لا يصغي سوى لصوت مخاوفنا، وإنما بها سمعٌ يصغي لصوت أحلامنا المعلّقة بين السماء والأرض، و"يفلتر" ضجيج الصباح المكتظ بأبواق حافلات المدارس، وآلات حفر عمال البناء، وزحمة المركبات في الشوارع، وتدافع المارّة على الأرصفة، ويبقي على ما توشح الصبح من غناء الطيور وضحكات الأطفال وما تسرب من شقوق الضوضاء من أغان ومن موسيقى فرح!

وجوه أخرى غير وجوهنا، ليس بها ألسنتنا الجافة من الندى، بل ألسنة ليّنة مبللة بماء الشعر لتُنبت الكلمات الطرية النديّة، ألسنة لا تنطق إلا عن الهوى، خصبة لزراعة الياسمين، وإحياء الدفء في جليد الحروف، ألسنة تكحّل عيون المعاني الرمداء بـ"مِرْوَد" النور، ألسنة لا تحتزم بالخناجر في خاصرتها وإنما بهديل المودّة والرحمة.

هذا ما يفعله الحب بوجوهنا.. وهذه عمليات التجميل التي يجريها لها، ونحن نستسلم لمبضعه طائعين، ولكن ليس لأجله هو، وإنما من أجل عيون من نحب، وهنا تحدث الإشكالية غالباً، إذ إن بعضنا يريد استعادة وجهه القديم عندما يخسر من يحب، كذلك أولئك الذين لم يستطيعوا التآلف مع وجوههم الجديدة، ولكنهم ظلوا محتفظين بها إلى حين يقينهم بأنهم تمكنوا من قلب الآخر، فأمِنوا عواقب التخلص من ذلك القناع الذي لا يتناسب وملامح قلوبهم، فيحاول هذا البعض استرداد وجوههم ما قبل الحب، يحاولون بشتى الوسائل انتزاعها من قبضة الحب، يقاتلون لاسترجاع وجوههم الخشبية بما حملت من عيون لا ترى سوى السواد، وأنوف لا تشم رائحة المطر، وأسماع صماء، وألسنة لا ينبعث منها سوى اللهب!

هؤلاء الذين يحبذون وجوههم الحقيقية حتى وإن كانت بشعة، على الوجوه التي منحها الحب حتى وإن كانت جميلة!

هؤلاء هم الذين غالباً يحملون الضغينة ضد الحب، لأنهم افتقدوا وجوههم القديمة رغم قبحها، وهم غالباً الذين يكونون معنيين عندما يقال لأحدهم لاحقاً: ليس أنت من أحببت!