على مدار الأشهر الماضية لم تتوان الحكومة المصرية عن تدخلها في الشأن السينمائي. قبل أن تهدأ عاصفة منع عرض فيلم «نوح» بزعم رفض تجسيد الأنبياء، صدر قرار المهندس إبراهيم محلب بوقف عرض «حلاوة روح» (عاد إلى العرض لاحقاً بحكم قضائي). بعد ذلك بأيام قليلة، حذف جهاز «الرقابة على المصنفات الفنية» مشاهد من سيناريو «حجر تفاح» لسما المصري. ولم تمضِ ساعات حتى أصدر وزير الثقافة المصري الدكتور جابر عصفور قراراً بمنع عرض «الخروج - آلهة وملوك» الذي يحكي قصة نبي الله موسى، بحجة أن الفيلم يتضمَّن مغالطات تاريخية فادحة، أبرزها أن اليهود هم بناة الأهرامات، وأن المصريين نكلوا بهم وعذبوهم، وأن العبرانيين عاشوا في مصر لمدة 400 سنة ذاقوا فيها ويلات العبودية والسخرة، وهذه أمور منافية للحقيقة.

Ad

يؤكد رئيس المركز القومي للسينما السابق كمال عبدالعزيز، والذي سهَّل مهمة تصوير «موسى» في مصر، أن الحكومة بريئة من هذه التدخلات، وأن صاحب القرار هو وزير الثقافة جابر عصفور بمفرده الذي نصب نفسه رقيباً على الرقباء. ويشير إلى أن أفعال الوزير وكلامه في هذا الصدد لا يمثّلان الحكومة أو النظام السياسي، بل عصفور فقط، والدليل تصريحاته التي أكَّد فيها أن ما اتخذه من إجراءات لم يرجع فيه إلى الأزهر أو إلى أي مؤسسة أخرى، بل هو قرار شخصي، وذلك يتناقض مع تصريحات سابقة له أكَّد فيها أنه لن يصادر الأفلام التي تجسد الأنبياء، قائلاً: «من حقي الاختلاف مع الأزهر»، وإنه يوافق على تجسيد الأنبياء في الأعمال الدرامية.

وتساءل عبد العزيز: «كيف للمسؤولين أن يعطوا تصريحاً بالتصوير لفيلم ثم يعودون ويمنعون عرضه»، مشيراً إلى أن القرارات التعسفية هي التي تسلّط الضوء على أعمال لا تستحق الاهتمام مثلما حدث مع «حلاوة روح».

ويطالب عبد العزيز الجهات المعنية بإتاحة عرض الأعمال الأجنبية حتى وإن كانت تجسد الأنبياء والرسل، ولكن عرضها على الخبراء والنقاد وأساتذة التاريخ لإيضاح ما فيها من مغالطات، خصوصاً عندما يكون تصوير الفيلم تمّ في مصر بموافقة الجهات المعنية، مشيراً إلى أن الوزير يفعل ذلك كي يؤكد لرؤسائه أنه الرجل المناسب في المكان المناسب.

خسارة

يرى المنتج السينمائي محمد السبكي أن التدخلات الحكومية في السينما تسبَّبت في خسارته مبلغ 18 مليون جنيه نتيجة توقف عرض «حلاوة روح»، مشيداً بموقف رئيس «الرقابة على المصنفات الفنية» السابق أحمد عواض الذي استقال احتجاجاً على منع عرض الفيلم الذي سبق وأجازه.

ويطالب السبكي الحكومة «بعدم التدخل في مثل هذه الأمور الفنية المعقدة وترك كل شخص للمهنة التي يحترفها لأن من منعوا عرض الفيلم لم يشاهدوه من الأساس، لكن الكل يريد أن يركب الموجة ويظهر أمام الرأي العام بأنه حامي الأخلاق الحميدة».

يتساءل السبكي: «لماذا تم إيقاف عرض «حلاوة روح» فقط رغم أن ثمة أفلاماً شبيهة به»، مرجعاً السبب في ذلك إلى محاولة البعض إفشال الفيلم وتكبيده خسائر مادية ومعنوية، لا سيما أن القرصنة دمَّرته وجعلت منه نسخة في كل من منزل، ما يؤكد أن منع العرض لم يثنِ الناس عن مشاهدته أو تداوله، ولكن الأزمة أن السبكي هو من خسر الأموال بمنع عرض الفيلم.

من جهة أخرى، أصدرت «جبهة الإبداع» بياناً ردت فيه على منع عرض «موسى». يرى الموقعون على البيان أن «ما قيل عن وجود أخطاء تاريخية في الفيلم لا محل له من الإعراب لأننا نتحدث عن عمل روائي لا تسجيلي والدقة التاريخية ليست معياراً لعمل جهاز الرقابة وإنما هو دور المؤرخين في الرد على تلك الأخطاء إن وجدت، لا سيما أن الفيلم يحدث في مرحلة ما زلنا نتلمَّس قراءتها تاريخياً، وهو عهد الفراعنة الذي يشوب تفاصيله كثير من الغموض». ويشيرون إلى أن الأزمة الحقيقية تكمن في أن السلطات المصرية وافقت بنفسها على تصوير الفيلم، فكيف تعود وتمنعه مجدداً.

يرى الموقعون على بيان الجبهة أن في منع فيلم «موسى» محاباة للأزهر وقراره بتحريم تجسيد الأنبياء في الأعمال الفنية، بعيداً عن تصريحات الوزير الرنانة التي أعطتنا في وقت سابق أملاً في أن أمراً ما قد تغيَّر، مؤكدين عقم المنع وعبثيته ومطالبين الوزير بالتمسك بتصريحاته ووعوده بعدم منع عرض الأعمال الفنية، كي لا ينتصر الظلام. يتابع البيان: «يجب علينا أن نطفئ اللافتات الموجودة أمام دور العرض السينمائي في كل مرة لنذكر من منعوا العرض بما فعلوه».

يؤكد الناقد السينمائي محمود قاسم من ناحيته أن جهاز الرقابة على المصنفات الفنية منذ نشأته يتبع الحكومة، فقد كان تابعاً لوزارة الداخلية ويتبع راهناً «الثقافة» ولكن أصبح الآن يعاني التدخلات السياسية، مشيراً إلى أن الرقيب الحالي ضعيف الشخصية يسمح للوزير ورئيس الوزراء بالتدخل في عمله من دون أن يبدي أي اعتراض، متذكراً الأيام التي كان يتولى فيها علي أبو شادي هذا الجهاز الحساس والذي يدير فيه عمله بمنتهى الاحترام والدقة.

يقول قاسم: «أصبحت مغازلة التيارات الدينية واضحة تماماً في غالبية القرارات الحكومية»، مشيراً إلى أن الوزير عصفور يريد أن يحرز هدفاً (بلغة كرة القدم)، ويريد أن يعرف الجميع أنه يعمل ضد اليهود والصهيونية وتزييف التاريخ.

ويطالب قاسم وزارة الثقافة بتشكيل لجنة من شخصيات سينمائية وأساتذة تاريخ ليُعرض عليهم الفيلم، وبالتالي يقررون مصيره، كي لا يتسبَّب المنع في الترويج للفيلم أكثر من اللازم.