دروس إسقاط الطائرة الأردنية
خلافاً لما سارعت إلى النعيق به غربان الشؤم من الداخل والخارج، فقد أثبتت ردود أفعال الأردنيين الفورية والتلقائية على سقوط طائرة الـF16 العسكرية، وأسر الطيار الأردني الملازم أول معاذ الكساسبة أن هذا البلد، المملكة الأردنية الهاشمية، أكثر تماسكاً مما ظن الذين اعتقدوا أن هذه الحادثة ستكون بمنزلة الصاعق الذي سيفجره بتظاهرات صاخبة قد تتحول إلى ما يعتبر بداية ربيع الأردن العربي، الذي كان مرّ على الأردنيين مرور الكرام.عندما وقع هذا "الحادث"، الذي هو غير مستغرب في الحروب، خصوصاً في حرب مثل هذه الحرب الصاخبة التي تشهدها هذه المنطقة، كان العاهل الأردني عبدالله الثاني في زيارة لمدينة الكرك الجنوبية، لمناسبة أعياد الميلاد المجيد لدى المسيحيين الأردنيين، التي تتبع لها بلدة "عي"، التي تقطنها العشائر التي ينتسب إليها الطيار "الأسير" معاذ الكساسبة، ولعل ما تجب الإشارة إليه هنا هو أن ردة فعل أبناء هذه المنطقة هي الالتفاف حول "جلالته"، والهتاف للقوات المسلحة الأردنية- الجيش العربي.
لا شك في أن بعض متصيدي المآسي والمفاجآت المحزنة قد حاولوا إثارة مسألة مشاركة الأردن في: "التحالف الدولي" الذي تم تشكيله للقضاء على تنظيم "داعش"، وبقية التشكيلات الإرهابية الأخرى كـ"القاعدة" و"النصرة"، لكن هذه المحاولات بقيت في الدوائر الضيقة، لأن الأردنيين من خلال ردات أفعالهم الفورية أظهروا تفهماً وطنياً لما جرى، على أساس أن الطيار الأسير كان في مهمة وطنية دفاعاً عن الأردن والشعب الأردني، وكان يؤدي واجباً إنسانياً على صعيد العالم بأسره. لقد كان هذا الحادث المؤلم والموجع مفاجئاً للشعب الأردني وللمسؤولين الأردنيين، لكن - وهذه حقيقة يجب أن تقال - لم يكن هناك أي ارتباك أو انفلات غرائز، كما يقال، فذوو هذا الطيار الشاب، ابن السادسة والعشرين من عمره، تصرفوا بحكمة "زائدة" وبتقدير للموقف، كما أن القيادات السياسية والعسكرية تعاملت مع الأمر بمنتهى ضبط الأعصاب، وبمنتهى المسؤولية، وتركت للقيادة المركزية لقوات التحالف مسألة إيضاح ما جرى، وأسباب سقوط الطائرة الأردنية، والتأكيد أنها لم تسقط بنيران وصواريخ "داعش"، إنما بسبب خلل فني من المنتظر أن يتم تحديده في فترة لاحقة قريبة.وهنا فإن ما يجب أن يقال أيضاً إن هذا الحادث أثبت صحة أن هذه الحرب المعقدة لا يمكن حسمها بالقصف الجوي وحده، حتى إن استمرت عشرين عاماً فأكثر، فـ"حرب العصابات" تتطلب، إن لم يكن في البداية ففي النهاية، استخدام القوات البرية، لأن السيطرة على الأجواء في مثل هذه الحالات لا تكفي، ولأنه لابد من السيطرة على الأرض، حيث يوجد الإرهابيون في مخابئهم، وحيث ينتشرون في المدن والقرى ويحتمون بالناس الأبرياء، الذين يسومونهم سوء العذاب.إن هذه الحادثة ذات الأدلة الكثيرة يجب أن تؤدي إلى تحول فعلي وجدّي في مسار الحرب، التي ستصبح من دون جدوى، إن هي بقيت، تتم بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب، فهذا التنظيم "متغلغل" في المنطقة التي يوجد فيها، سواء في العراق أو في سورية، لذلك فإنه لابد أن تكون هناك قوات مشاة وقوات مدرعة على الأرض، لاستثمار الإنجازات التي تحققها الغارات الجوية، وما عدا هذا فإن هذه الحرب قد تستمر أربعين عاماً، كما استمرت حرب البسوس في تاريخنا العربي البعيد.