على هامش حادث «شارلي إيبدو»
لن يكون بوسع أكثر المتدينين وفاءً للإسلام أن يجد تبريراً واحداً مقنعاً لمثل هذا الحادث الإرهابي الدنيء بحق منسوبي «شارلي إيبدو»، أو الشرطي الفرنسي الذي تم قتله بدم بارد، قبل أن يظهر لاحقاً أنه مسلم ومن أصول عربية، لكن من الصعب أيضاً تبرير الإصرار على استفزاز المسلمين عبر النيل من أقدس رموزهم.
إن الحادث الإرهابي الذي استهدف مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية الساخرة حقير ومروع، إذ يستهدف الروح البشرية العزلاء المسالمة من جهة، وحرية الرأي والتعبير من جهة أخرى، ولا يقيم وزناً لأي شريعة أو معيار أو قانون أو قيمة.تلك مقدمة لابد منها عند مقاربة أي جانب أو زاوية في هذا الحادث، الذي ستكون له أوخم التداعيات على حرية الرأي والتعبير، والأمن والسلام العالميين، والتطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وأحوال العرب والمسلمين في فرنسا خصوصاً، وأوروبا عموماً.لكن ثمة ما يجب قوله أيضاً في هذا الصدد، ليس فقط من باب تقصي الأسباب التي تقف وراء اختيار هذا الهدف بالذات (شارلي إيبدو) لهذا العمل الإجرامي الإرهابي، ولكن أيضاً من زاوية محاولة تجنب اندلاع مثل تلك الحوادث الإرهابية مجدداً.لقد ورثت "شارلي إيبدو" مجلة أخرى كانت تصدر طيلة فترة الستينيات من القرن الماضي، وتسمى "هارا كيري". كانت "هارا كيري" إحدى أهم المجلات الكاريكاتورية الساخرة في فرنسا، وقد صدر آخر عدد لها في أعقاب وفاة الزعيم الفرنسي الراحل شارل ديغول.في تلك الأيام بالذات كانت الصحف الفرنسية موزعة بين خبرين رئيسين؛ أحدهما عن وفاة ديغول، وثانيهما يخص مأساة مصرع مئة شخص في ملهى ليلي، لكن "هارا كيري" المفرطة في السخرية والنزعة الراديكالية، رأت أن تُعنون على طريقتها، فكتبت ما يلي: "مصرع مئة في ملهى للرقص.. ورقصة مأساوية أخرى في كولومبي (مقر إقامة ديغول) تسفر عن مقتل شخص واحد".لقد تم حظر "هارا كيري"، ولم تصدر ثانية، بسبب أن النظام العام في فرنسا، بآلياته القانونية والتنظيمية، رأى أن ما فعلته المجلة يمثل انتهاكاً لقيمة يجب أن تحترم.قصة أخرى وقعت في يوليو من عام 2004، حين قرر المجلس الأعلى للإعلام المسموع والمرئي في فرنسا تقديم طلب إلى "مجلس الدولة" لإيقاف بث قناة "المنار" على الأقمار الاصطناعية الأوروبية داخل البلاد؛ وهو الأمر الذي حدث بالفعل في غضون العام نفسه، بعدما اتهمت سلطات الإعلام الفرنسية القناة بأنها "تبث محتوى لا يمكن احتماله".كانت قناة "المنار" في هذا الوقت تذيع مسلسلاً عربياً رأت السلطات الفرنسية أنه "معادٍ للسامية"، إضافة إلى جملة أخرى من البرامج والممارسات، التي اعتبرت تلك السلطات "مسيئة ومحرضة على الكراهية".قصة ثالثة يمكن أن تكون موحية في هذا الصدد، ففي عام 2010، اتصلت سلطات المجلس الأعلى للإعلام المسموع والمرئي برئيس شركة "نايل سات" المصرية، وهي الشركة التي تمتلك وتدير القمر الاصطناعي المصري الذي يحمل الاسم ذاته، طالبة منه العمل فوراً على إيقاف بث "قناة دينية" معينة، ضمن الحزمة التي تبثها "نايل سات" على القمر الاصطناعي "يوتلسات".سألت الشركة المصرية عن سبب هذا الطلب الغريب، فكانت الإجابة أن "تلك القناة تبث محتوى يطعن في أتباع دين معين، ويحرض على التمييز ضدهم". وقد استجابت الشركة المصرية لهذا الطلب على الفور. أما القصة الفرنسية الرابعة في هذا المقال، فقد وقعت في صيف عام 2012، حين كانت الأميرة كيت ميدلتون، زوجة الأمير وليام أحد ورثة العرش البريطاني، تقضي عطلة في أحد منتجعات جنوب فرنسا، حين التقط لها مصورو "الباباراتزي" صورة أظهرت صدرها عارياً.قامت مجلة فرنسية بنشر صور الأميرة، وهو الأمر الذي دعا العائلة المالكة في بريطانيا إلى رفع قضية على المجلة، متهمة إياها بـ"خرق خصوصيتها"، حيث استجاب القضاء للادعاء مباشرة، وحكم على المجلة بضرورة وقف نشر الصور، وعدم بيعها إلى أي جهة أخرى، وألزمها بتعويض قدره عشرة آلاف يورو عن كل يوم تأخير في تسليم الصور إلى العائلة المالكة البريطانية.تعطينا تلك القصص إطاراً مناسباً لكي نفهم طبيعة العلاقة بين حرية الرأي والتعبير وحق الجمهور والمصلحة العامة في مجتمع حر متقدم منظم تنظيماً جيداً.لقد أعادت "شارلي إيبدو" عام 2012 نشر الرسوم المسيئة بحق الرسول (صلى الله عليه وسلم) في بعض أعدادها، وهو الأمر الذي رفضته الخارجية الأميركية مثلاً آنذاك، وعلقت على هذا الأمر بقولها: "لا ندرك الحكمة من القيام بنشر تلك الرسوم مع التوقعات بشأن ما يمكن أن تثيره من استفزازات وأحداث عنف".بل إن الحكومة الفرنسية نفسها لم تبدِ ارتياحاً لنشر مثل تلك الرسوم، كما امتنع عدد من الصحف المختلفة داخل فرنسا وخارجها عن إعادة نشرها.لا يوجد أي مبرر بالطبع لشن الهجمات الإرهابية أو استخدام العنف بحق أصحاب الرأي مهما شطحوا أو بالغوا في الاستفزاز والشطط، فالرأي لا يجابه إلا برأي، والكلام لا يواجه إلا بكلام، والفكر لا يفند إلا بفكر.لن يكون بوسع أكثر المتدينين وفاءً للإسلام أن يجد تبريراً واحداً مقنعاً لمثل هذا الحادث الإرهابي الدنيء بحق منسوبي "شارلي إيبدو"، أو الشرطي الفرنسي الذي تم قتله بدم بارد، قبل أن يظهر لاحقاً أنه مسلم ومن أصول عربية، لكن من الصعب أيضاً تبرير الإصرار على استفزاز المسلمين عبر النيل من أقدس رموزهم.توضح القصص الأربع في هذا المقال، من دون مواربة، أن الحق في حرية الرأي والتعبير، والحق في إعلام حر منفتح بلا أي رقابة أو تضييق، يستلزم صيانة جملة أخرى من الحقوق؛ على رأسها الحق في الخصوصية، وفي الحصول على معلومات سليمة غير مضللة، وعدم التمييز بين المواطنين، أو التحريض على العنف، أو بث الكراهية.كما توضح أن احترام عقائد الآخرين حق من حقوق هؤلاء الآخرين بوصفهم بشراً، ومهما كانت تلك العقائد لا تروق لنا، فلا يوجد أي مبرر لانتهاكها أو التجرؤ عليها.نحن ندين الإرهاب، ونجزع من جرمه وتبجحه، ونطالب المجتمعات المتقدمة والمحترمة بمقاومته، واحترام عقائدنا في آن.* كاتب مصري