أي ذكريات بقيت لنا عنك يا غزة؟!
ليست الذكريات تلك التي فقط نستعيدها حين نخلو لأنفسنا في مكان قصي وهادئ، هي في داخلنا نحملها ونتجول بها طول الأرض وعرضها، وهي متجددة على الدوام حتى لو كانت ذكريات قاسية، فلا يمكن لأحد أن يقصي من ذاكرته أياما عاشها بحلوها ومرها وإن بذل الجهد في التخلص منها، لكنه يستطيع أن يطردها كلما تصدرت مشهد الذكريات، ولكن المؤكد أنها تلاحقه وتتردد في خاطره كلما التقى بما يذكره بها أو وقعت عينه على مشهد وافقها.فجميل أن تقع العين على "صورة" تظهر لنا فجأة من بين كومة من الصور تم فيها رصد لحظة من الزمن مرت ولن تعود، فتأخذنا اللحظة بعيداً إلى زمن الصورة نتأملها ومن فيها من صُحبة، إذ سعدت بدقائق وأنا أبحث بين مجموعة من الصور القديمة حين وقعت عيني على عدد منها جمعتني بإخوتي وأخواتي ونحن صغار، وبرزت لي مشاهد قديمة كانت تختفي وراء جدار الزمن من أجملها تلك النخلة التي كانت تتوسط بيتنا القديم والتي كنا نلعب حولها.
وتوالت صور من هنا وهناك لحارتنا "الشجاعية" وسوقها ومساجدها ومدرستها، وبرزت صور في الذاكرة لرجال كان لهم حضور دائم في كل نشاطات الحارة، ولو تركت نفسي تستحضر كل ما أحتفظ به من ذكريات لحارة "الشجاعية" في مدينة غزة لما أسعفني الوقت كي أستحضرها جميعا ذلك أنني أحمل أدق التفاصيل عنها منذ كنت صغيراً.لم تغب غزة وحاراتها وشوارعها وأزقتها وأسواقها وبحرها عن بالي طوال مسيرتي في الشتات، وكانت حاضرة في الكثير من لوحاتي وكتاباتي، وفي هذه الأيام، وغزة تحت القصف المجنون، ونحن نتابع باللحظة كيف يتم تدميرها جزءا جزءا، كنت أحتضر مع كل صورة تنقلها الفضائيات لنا في أقصى الأرض ولا نملك إلا الحسرة والدعاء إلى الله بأن يحمي من تبقى حيا في غزة.تناقلت وسائل الإعلام خلال الخمسين يوما الماضية من الحرب على غزة، كيف تم تدمير جزء كبير من حارة "الشجاعية"، ولا أخفي أنني كنت كلما شاهدت صورة عنها كانت الحارة كلها تحضر أمامي بأدق تفاصيلها، وكنت أسأل نفسي: ماذا سأجد مما أعرفه لو أنني زرت غزة قريباً؟ هل سأجد كل ما ارتبطت به ولي معه ذكرى في مكانه، وعلى حاله؟!كان الصدى يأتيني من داخلي: من المؤكد أنني لن أجد إلا بقايا أشياء أو سأفترض أنه كان هناك شيء "يخصني" وحدي دون أترابي الذين عاشوا في هذه الحارة العريقة والتي ينسب اسمها إلى القائد "شجاع الدين الكردي"، والتي ولد فيها شاعر فلسطين الكبير "معين بسيسو"، وغيره من الرموز الوطنية والفكرية والثقافية والفنية. تصاعد غضب دولة الاحتلال لتبدأ مجزرة جديدة باستهداف المباني السكنية في تطور مخيف أصاب سكان غزة المحاصرين بالهلع، وشرد المئات من العائلات الكريمة إلى مدارس الإيواء المذلة! صحيح أنني لم أميز أسماء الأبراج السكنية الجديدة أو معرفة مواقعها بالضبط لطول الغياب، لكنني أعرف الأماكن التي يتم ذكرها وقد احتفظت باسمها القديم دون تغيير.فالحي الغربي "الرمال"، أذكر أنه كان غابة من الأشجار تم استصلاحها كي تتحول إلى حي راق وقريب من البحر برماله الذهبية النظيفة، وهو الذي أقيمت عليه المشاريع والأبراج السكنية التي تم تدمير جزء كبير منها في الحرب السابقة" الرصاص المسكوب من 27 ديسمبر 2008 إلى 18 يناير2009، وفي هذه الحرب "الجرف الصامد" تم تدمير عدد كبير منها بحجة أن المقاومة الفلسطينية تستخدمها لإطلاق صواريخها نحو الأرض المحتلة!!ماذا تبقى لنا من ذكريات عن مدينتنا الجميلة وقد ضمختها الدماء وتناثرت فيها أشلاء سكانها بين الحطام وترسبت في النفوس الحسرات؟ وماذا سنذكر عن غزة بعد أن طغى الألم على كل مساحات الفرح التي كنا نستشعرها كلما تذكرنا مكانا أو صورة جميلة حاولنا ألا تعكرها أحداث الحياة التي لم تتوقف؟كنا صغارا نسمع الأناشيد ونردد "عائدون... عائدون"، وكبرنا لنعيش حروبا، وهزائم، وسياسات متخبطة، وليصعد على منابر الخطابة من نصبوا أنفسهم قادة، وليصعدوا على جثث شهدائنا، ويساوموا على أسرانا، ويتوزع الناس بين الفئات وتقتتل فيما بينها، والعدو يبني ويتحصن ويتوسع في أرصنا... حلمنا الذي لم يفارقنا!أي ذكريات بقيت لنا... عنك يا غزة؟! * كاتب فلسطيني - كندا