أميركا هي مَن تقدم تنازلات لا إيران
ما تغير حتى الآن ضمن المفاوضات بشأن السلاح النووي الإيراني ليس استراتيجية إيران، بل الرد الأميركي، إذ اختارت أميركا التغاضي عن السياسات الإيرانية القائمة منذ زمن طويل بدلاً من مواجهتها، وهذا، إلى جانب تنازلاتها في المحادثات النووية، وغموض سياستها تجاه الأسد وتصاعد التوترات مع حلفائها في المنطقة، يعزز الانطباع بأن الولايات المتحدة، لا إيران، هي التي تخضع اليوم لتحوّل استراتيجي كبير.
في الأسبوع الماضي، ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال"، نقلاً عن مسؤولين أميركيين وعرب أن العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران "انتقلت إلى حالة فعالة من الوفاق خلال العام الماضي"، لكن، على الرغم من أن الوفاق ينطوي على التخفيف من حدة التوتر المتبادل، فإن التغيرات في العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران كانت بالتأكيد من جانب واحد.كان الهدف الرئيسي للسياسة الأميركية تجاه إيران في السنوات الأخيرة هو إقناع طهران بإجراء تحولٍ استراتيجي: أي الابتعاد عن استراتيجية تعمل على استعراض القوة وردع الخصوم عبر اتباع وسائل غير متكافئة، والعمل باتجاه استراتيجية من شأنها الالتزام بالمعايير الدولية وتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة، ولو تحقق هذا الوفاق وفي إطاره الاتفاق النووي، الناتج عن هذا التحول، لكان موضع ترحيب، ليس من الولايات المتحدة فحسب، بل أيضاً من حلفائها في المنطقة وخارجها.
ومع ذلك، لا يبدو أن إيران شهدت أي تحول من هذا القبيل، فقد استمر الدعم الإيراني لـ«حزب الله» في لبنان بلا هوادة حتى في الوقت الذي أحبطت فيه الجهود التي بُذلت لتعزيز سيادة لبنان وأرسلت قواتها إلى سورية. ووفقاً لمدير المخابرات القومية الأميركية، زاد «حزب الله» "نشاطه العالمي في السنوات الأخيرة إلى مستوى لم نشهده منذ تسعينيات القرن الماضي"، كما تواصل طهران دعم الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل المتمردين الحوثيين في اليمن، وكذلك «حماس» والجماعات الفلسطينية الأخرى بعد مرور فترة وجيزة من القطيعة الواضحة التي صاحبت الانتفاضات العربية عام 2011.وفي العراق، تم الحديث كثيراً عن توافق المصالح المفترض بين الولايات المتحدة وإيران، إلا أن مثل هذا التوافق لم يظهر للعيان، فزيادة نفوذ إيران في العراق ودعمها العلني للميليشيات الشيعية- والتي حذر مسؤولون في المخابرات الأميركية من أنها قد تؤجج التوترات الطائفية- تقف على خلاف مباشر مع استراتيجية الرئيس الأميركي باراك أوباما القائمة على السعي إلى استعادة ثقة العراقيين السُّنة بحكومة بغداد، وتحويل توجهاتهم ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، وتعزيز دمجهم في الحكومة العراقية ومؤسساتها. وفي سورية، يبدو الصدع الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإيران أكثر وضوحاً، فسياسة واشنطن المعلنة هي أن حكم بشار الأسد غير شرعي وأن إنهاء الصراع السوري يتطلب من الأسد التنازل عن السلطة لصالح قيام حكومة تمثيلية شاملة، في وقت تعمل إيران على دعم الرئيس الأسد، بإيفادها مستشارين عسكريين ووكلاء شبه عسكريين، وتنظيمها قوات سورية نظامية وغير نظامية.وعندما يتعلق الأمر بتنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، لا تتفق الولايات المتحدة وإيران على الهدف نفسه، ورغم أن كلا البلدين، يقيناً، يقاتل هذا التنظيم، فإن القادة الإيرانيين، يتهمون الولايات المتحدة بإنشاء «داعش» (الذي يقول عنه المرشد الأعلى الإيراني إنه يمثل "الإسلام الأميركي") كذريعة للتدخل في سورية والعراق، كما أشار القادة الإيرانيون إلى استيلاء المتشددين في تنظيم «الدولة الإسلامية» أخيراً على معونات جوية أميركية أنزلت بالخطأ على مناطقهم، دليلاً على أن واشنطن تقدم الدعم المادي لـ«داعش».وباختصار، فإن ما تغير حتى الآن ضمن المفاوضات بشأن السلاح النووي الإيراني ليس هو استراتيجية إيران، بل الرد الأميركي، إذ اختارت الولايات المتحدة التغاضي عن السياسات الإيرانية القائمة منذ زمن طويل بدلاً من مواجهتها. وهذا - إلى جانب التنازلات التي قدمتها واشنطن في المحادثات النووية، وغموض سياسة الولايات المتحدة تجاه نظام الأسد وتصاعد التوترات مع الحلفاء الذين كانوا يناصرونها ذات يوم في المنطقة - كلها تعزز الانطباع بأن الولايات المتحدة، لا إيران، هي من يخضع اليوم لتحوّل استراتيجي كبير.* مايكل سينغ | Michael Singh