يستهلّ بيضون إبحاره الشعريّ في صلاة لبداية الصقيع» بنصّ «أربّي قلباً»، الذي يبدو تأريخاً جماليّاً لرحلة داخل الوطن: «أكتب على عظامي الكبيرة، صندوق جسدي/ 14 شباط ذات عام على طريق الأرز..»، ويحسن صاحب الرحلة اصطياد قارئه بشبكة التأويل، إذ إنّه يقول ويترك له هو أيضاً أن يقول، دون الوقوع في دائرة الرمز المغلقة: «فإنّ أشياء كثيرة تتحرّك في صندوق صدري / هناك مفاتيح بتواريخ متعدّدة / الغيمة التي نزل منها أولاد على الثلج / الكلمة التي أمطرت كثيراً فوق الأشجار»... وإذا جمح خيال بيضون لجمته العاطفة ونجّت لغته من كثافة الضباب الذي بتماديه يغتال نسغ المعاني...

Ad

ويصرّ بيضون على إعلان صقيع من نوع آخر، صقيع التلاشي وإعادة التشكّل بعده، فها هي الحافلة تدهسه وتوزّع شظاياه على الشاشات، لينصرف بعد موته المفترض إلى استرجاع المشهد الآدمي الذي كانَهُ، أو إلى استرجاع ما يذكّر به على الأقلّ: «جمعتُ أصابعي من عيدان الطريق، وعظامي من الصفيح، ومسامي من قطرات المطر. كابدتُ على الحيطان حيث لحيتي معلّقة كقناع مع شارب صغير وعينين ضيّقتين». ومن اللافت أن الشاعر على ثأر مع الوقت، ذلك الوقت الذي يوقظ شيخوخة الإنسان في صدور المفردات، ويجعل الحائط ذا وجبة ولحية طاعنتين في الهَرَم وفي الزمن الأصفرِ: «... والأرجح أنّ الحائط ظلّ يعطس بوجبة أسناني، بدَونا كتوأمين مسنّين، تبادلنا الأماكن واللحى، وحين سُمعَ العواء لم نعرف أيّنا بدأ به».

وبين بوح وآخر، يعود بيضون إلى برده، إلى الصقيع الذي لا يذهب به جمر الصلاة ولا يكسر البخور سُمّه. فيرى الضوء مرتدياً صلابة الصقيع في الحجر، والهواء ذا حدٍّ جارح: «البرد. الضوء متحجّر ونحن، مع ذلك، نرى عبره. الهواء مسنون، ونحن، مع ذلك، نرى عبره.» وبرد الشاعر لا تحتمله الغيوم فيطردها، ولا تقوى عليه أشياء النهار، إنّه البرد المكتفي بذاته لرسم المشهد: «طرد البرد الغيوم وكلّ زوائد النهار، طرد الشتاء بعجيجه وأقذاره..» إنّه البرد المراهن على الفراغ الكبيرلإثبات وجوده، في حضور السكينة التي تحترف تهجئة ذلك الفراغ المفجع: «لا يعوي، ولا يصفرّ ولا يترك علاقة سوى ذلك الفراغ المعمّر. هربت العصافير والأشجار مجلّدة إلى درجة تتوقّف فيها عن الإرتجاف»... وأمام هذا البرد البالغ أقصى المطارح في ذاته يحمل الشاعر عينيه حجرين كريمين في وجهه ويتولّى قلبه دمعاً جليدياً: « عيناي تتحجّران وتتّسعان كحجرٍ كريم، بينما قلبي يذرف دمعة من جليد».

«متقاعدون»

وفي نص «متقاعدون» يستأنف بيضون حكايته مع الوقت ويحمّل على ظهور الكلمات بُعداً إنسانيّاً جميلاً. فهؤلاء المتقاعدون يعيدون تشكيل العمر بدخان السجائر. إنّهم ستّينيون، غير أنّ ذاكرتهم لم تلحظ مرور الوقت، كأنّهم وطئوا تراب الأرض ستينيّين: «إنّهم يشعرون أنّهم لم يتركوا وقتاً وراءهم. إنّهم بالكاد عاشوا» وليس هؤلاء المتقاعدون على كثرتهم سوى رجل واحد يحاول تأبيد اللحظة بالقصيدة، ليسوا إّلا الشاعر الذي لم يعد له غير اللغة مادّة بناء تستطيع الارتفاع والشكل والجمال: «يقرأون أكفّهم التي يسقط كل يوم منها طالع آخر. يعمّرون ألفباءات شاهقة ولا ينهون نهاراً كاملاً».

يعلو في عبّاس بيضون شجر الحزن العملاق. وتسير لغته تحت قناطر الضباب الأسود، ومن الصّعب جدّاً أن يعثر القارئ في صلاته، المستقبلة صقيعاً أتى وسوف يأتي، على كلمة تتسّع لابتسامة، أو صورة تصلح وساماً على صدر الفرح. ويأتي نصّ «سمّيني» لا ليضيء إنّما ليكون مقتصداً بالظلمة. فبيضون يخاطب إحداهنّ، ويطلب أن تحمل عظمة من عظامها اسمه، وأن يكون له ما بين الحاجبين ضمّة: «سمّي عظمة في جسمك باسمي، ضمّيني بين حاجبيكِ». فهل لامرأة أن تتباهى بحضورها على الصلاة وتستردّ رجلاً من جزر الصقيع القصيّة؟ حتى هذه المرأة يرى الشاعر في آخر خاتمها مشنقة، لأنّه يستطيع الريح بقدميه، لكنّه لا يستطيع ريحاً يردّ ما فيه من رماد جمراً: «أصادف خاتمك قبل أن يصير مشنقة. أسير بقدمي كثيراً من الريح، لكنّي لا أستطيع أن أحرّر نفسي».

ورغم اليأس الذي يحيط بالمحاولة، يعرف الشاعر كيف يراهن على الوصول إلى فردوسه متّكِلاً في تسلّقه على خيوط هزيلة: «لا أخرج سالماً من هذا القفل إلّا بكثير من المهارة، مع ذلك سأكون متسوّلاً خارج هذه الجدران». ويعرف بيضون تماماً أنّه يعيش المعجزة، لأنّ الموت يسكن فكّه منذ ثلاثين سنة ولأن اسمه ينام نومة أهل الكهف بين العظام، غير أنّ الجبال البعيدة، قد تأتي على قدمين لتشعِل فرح الصوت في حنجرة محشوّة صقيعاً: «... تتحرّك الحياة في فكّ مهجور منذ ثلاثين عاماً، يتحرّك اسمي مع جمع من العظام الصغيرة.../ لكنّ الصدى الذي يتهيّأ لجوابي سيكون عظيماً، سيكون مخيفاً ذلك الجبل الذي يأتي على ندائي».

«ألى أختي»

وفي نصّ «إلى أختي» يواصل بيضون الاحتماء بكآبة العاطفة، ويمدّ يده إلى أخته وعبثاً يحاول إنقاذها من ظلم الوجود. أخت الشاعر هي رنين الفرح في ذاكرة الأمس الطفوليّة، والصمت الثقيل في ظلال الحزن العميقة: «لعبنا في الباحة، لكنّ عذاب الأشقّاء يتأخّر كثيراً. الماء الذي رميناه من النافذة سقط على حظّنا..» ويتمادى بيضون، لا في تصوير أخته، إنّما في نحتها بأزاميل اللغة الموجوعة، نحت الحدبة في ظهرها: «تحمل حدبة في ظهرها كبيرة وبارزة كالجريمة»، ونحت سكون عظامها، ونحت جسدها الذي: «انطوى ولم يعد بيتها»...

ويصل الشاعر إلى نص «صلاة لبداية الصقيع»، ليعلن الموت الباني مملكته في مطارح البرد، حيث الحياة تسقط عن ارتفاعها الشاهق، وحين لا نحلة تقوى على حمل كلمة بين جناحيها: «أحتاج إلى تلك الكلمة لأبدأ، إلى نحلة لتنقلها. لن أجدها في هذا الوقت، كم حيّاً مات تحت البرد». وفي كثافة الوداع يرثي الشاعر نملة ينوء عمرها تحت حبّة قمح، وذبابة قد تكون نجت بموتٍ لا يحاصره زمان أو مكان. ويبدو موّرطاً بالحياة بعدما نجا منها كلّ أحياء الأرض: «أنا الوحيد الحيّ هذا الصباح. لقد أرّقتني هذه الفكرة. كان التلفزيون أمامي مليئاً بالأحداث». وإذا كان لا بدّ من انتظار فهو لا يزال موعوداً بقافلة النمل تزوره وبالذبابة ترفّ جناحيها أغنية، وحين يكتمل النصاب الحزين يوقظ الشاعر نوح الذي فيه وتنطلق السفينة: «ستمتلئ الغرفة بهذه الكائنات، وسأجرّها كسفينة نوح».

في «صلاة لبداية الصقيع» كتب عبّاس بيضون برْده بحبر ملتهب، وأغرى اللغة بحزنه، وترك لخياله حريّة الصيد الحلال شَرط عدم الإساءة إلى الحضور العاطفي الذي يحافظ على المساحة المخصّصة له في النصّ الموشوم بكثير من الرّمزية.