أحد المقاييس الدالة على اهتمام أي أمة من الأمم بحاضرها ومستقبلها، هو التفاتها واهتمامها بلغتها ووقوفها أمام التغيّرات التي تشملها. إن التحولات التي تمرّ بها اللغة العربية كبيرة ومصيرية. صحيح أن البعض يركن إلى كونها لغة القرآن الكريم، وأنها ستبقى محفوظة، لكن إذا ما نظرنا إلى أن عدد المسلمين من غير العرب يفوق بمرات عدد العرب، وأن هؤلاء المسلمين، من غير العرب، بالكاد يرددون الآيات القرآنية، بلحن واضح وإدغام لحروف كثيرة، حتى ليصعب على المستمع فهم معنى الآية، فسندرك أنه من المهم النظر بجدية إلى مستقبل اللغة العربية.

Ad

مع موجة انتشار القنوات الفضائية العربية، برزت وبشكل واضح مشكلة اللهجة، فمعظم البرامج في تلك الفضائيات تنطق بلهجة مذيعيها، وقلة نادرة تلك الفئة من المذيعين الذين يتكلمون اللغة العربية المبسّطة، وإذا ما أضفنا إلى ذلك ثورة المعلومات وشبكة الإنترنت وأنها ناطقة في معظمها باللغة الإنكليزية، وذلك ينسحب على استخدامنا للأجهزة الذكية، سواء الكمبيوتر أو التلفون أو الآي باد، فإن الخطر يبدو بادياً للعيان.

الدول المتقدمة، لا تتوقف عن إصدار قواميس جديدة ومتجددة للغتها، فتحذف ما تقادم وذبل وانمحى من كلماتها، وتضيف إليها كلمات جديدة برّاقة دخلت عليها، إلا نحن أمة العرب، ما زلنا نستخدم قواميس أكل عليها الدهر وشرب وداس عليها بعصور متوالية، لم تعد تحاكي الواقع ولا تنتمي إليه، وحتى اللحظة لم أجد قاموساً عربياً واحداً تناول كلمات اللغة وفق جذرها العربي، ثم تدرّج في تغيراتها، فجدد ما تطور، وحذف ما اندثر، ليَخرج قاموساً عربياً حديثاً معاصراً، يتصل من جهة بأصل الكلمة، وينتهي إلى كلمات جديدة صارت جزءاً لا يتجرأ من اللغة، أياً كان أصلها.

قابلت قبل فترة أحد طلاب اللغة العربية من غير الناطقين بها، وكان يشكو مر الشكوى من صعوبة تعلّم اللغة العربية، ولأنني كنت مهتماً بسماع شكواه، راح يردد:

- المشكلة الأكبر في القاموس.

كنتُ أنظر إليه مشفقاً، وهو يقول:

- البحث في القاموس يحتاج إلى قاموس آخر!

مشكلة هذا الطالب تشبه إلى حد كبير مشكلة أبنائنا الطلبة الدارسين في مختلف المراحل الدراسية، ويزداد الأمر سوءاً بالنسبة للطلبة الدارسين في المدارس الأجنبية الخاصة، فنظرة عابرة على المناهج في المدارس الخاصة، حتى وهي تخضع لمراقبة وزارة التربية، تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن الطالب بالكاد يلم بأقل القليل، وأنه بالكاد يتمكن من قراءة نص لمادة اللغة العربية، وأن ما كان يُدرّس لطلبة الصف الرابع الابتدائي صار يُدرّس لطلبة الثانوي، ويكاد يتخرج الطالب من المدارس الخاصة، وهو لا يدرك الفرق بين الفعل المضارع وفعل الأمر.

مشكلة علاقتنا باللغة العربية، مشكلة معقدة، وسبب التعقيد يأتي من تشابك أطراف كثيرة فيها: الأسرة، والمدرسة، والمحطات الفضائية، والعولمة، ومواقع التواصل الاجتماعي، والأجهزة الذكية، فهذه الأطراف مجتمعة تتحرك في جهة، وقواميس اللغة العربية الجامدة تركن إلى جهة أخرى، ويكاد يكون التوفيق بين الجهتين أمراً مستحيلاً.

اللغة كائن حي، يستمد حياته من تجدده وصلته بما يحيط به، ولذا فإن مجمع اللغة العربية، ومعه الجامعات والمعاهد والمدارس والهيئات الرسمية والأهلية، وعلماء اللغة، ودور النشر، ويأتي سابقاً عليها دور الأسرة، كلٌ في مجاله، عليه التواصل مع اللغة العربية بثوبها المتجدد، وجعلها مادة للتواصل بين البشر، فهي لا تقل عن اللغة الإنكليزية أو الفرنسية، وهي تحوي كنوزاً تستحق من يلتفت إليها.

دعوة صادقة لإعادة النظر في طريقة تعاملنا مع اللغة بوصفها كائناً حياً يعيش بيننا، ويحتاج إلى رعايتنا، كي يحيا.