«على قيد الحياة» ليو هوا... فقراء الثورة الثقافيَّة
تذهب ثروة «فو قوي» في لعب الميسر، من ثم يتوفى والده. عندما تفسد صحة أمه لاحقاً، يقصد المدينة علَّه، بمال ادّخره من ساعات عمله في حقل، يأتي لها بطبيب ينقذها. هناك، تقبض عليه السلطات ويُجند للحرب حيث يقضي سنتين، ويرجع ليجد أمه فارقت الحياة في حين أصيبت ابنته بالبكم. يفقد «فو قوي» ابنه أيضاً، ثم ابنته إثر إنجابها حفيداً له، يموت مختنقاً لاحقاً. لا يعود الفلاح الصيني يملك من أسباب العيش إلا بقرة يشتريها أملاً بأن تزيل وحشته. هي إرادة الحياة في مواجهة الموت المتتالي، في رواية «على قيد الحياة» للكاتب الصيني يو هوا.
أحد الأمور اللافتة في ثورة الشيوعي ماو تسي تونغ الثقافيَّة الصينيَّة في الستينيات، أنها لم تنتج «ثقافة روائيَّة» بقدر ما أثمرت كتّاباً وكاتبات معترضين ومعترضات أو منفيين ومنفيات على جحيمها في الحياة الصينية. من «جبل الروح» لغاو كيسينغيان و{بجعات برية» ليونغ تشانغ، إلى «بالزاك والخياطة الصينية» لداي سيجي، و{شنغهاي بيبي» لوي هيوي... بعدما تسلَّقت سور الصين العظيم، التقينا عبر الغرب بهذه الروايات الصينية المنشقَّة عن سلطة ماو التوتاليتارية، لتكشف وجه تلك الأيديولوجيا الآخر.لا تنفصل عن هذه الرويات «على قيد الحياة» الصادرة حديثاً ضمن سلسلة «إبداعات عالمية» في الكويت، بقلم الكاتب الصيني يو هوا (ترجمة عبد العزيز حمدي عبد العزيز).تصارع صفحات «على قيد الحياة» الموت. من رحيل إلى آخر، يسرد «فو قوي» حكايته في قصة شدَّت انتباه أوساط العالم الأدبية فاحتفى بها النقاد، وتُرجمت بقيم إنسانية تفيض بها وعواطف كثيرة إلى أكثر من لغة عالمية. فيما تعرض سرداً تاريخياً تشويقيّاً وتحكي عيش الإنسان الصيني الكادح في فترة شديدة من حروب وانهيارات، تُبقي الرواية على لغتها واضحة سلسلة، كما يبدو من خلال ترجمتها إلى العربية.تعرض الرواية عيش الصين أيام الحرمان والشقاء وتحمّل أبنائها حياة صعبة منذ عشرات السنين. تسرد أموراً عاشها المؤلف، وفي الوقت نفسه، أموراً لم يبصرها. تحكي الشخصية المحورية في الرواية «فو قوي» (مزارع فقير) قصتها، مؤكدةً أن الحياة جزء من مشاعر كل إنسان بعينه. يجوب «فو قوي» الأرياف والقرى جامعاً الأغاني الشعبية. يعود إلى ذكريات حياةٍ عاشها ذات يوم، فتتوضح لنا معالم الصين الاجتماعية خلال القرن العشرين. بلد تجبَّر على كوارث ونكبات أصابته في الستينيات من القرن الماضي. صعاب شهدها الكاتب، فتركت آثارها عميقةً على أسرته. يعيش سلسلةً متلاحقة من معاناة تخلفها أزمات لامنتهية. حتى إنه لا يعرف سوى العذابات والصعوبات. ولكن في خضم المعاناة والتعاسة، تجده مفعماً ببهجة وتفاؤل فائضين، إذ يعتقد أن زوجته أفضل زوجة في العالم، وأبناءه الأحسن، كذلك حفيده، ثم بقرته، وأصدقاء تقاسموا معه الحياة.يطلق العجوز «فو قوي» على بقرته العجوز اسم «فو قوي» أيضاً، والحاكي في الرواية يرى الرجل وبقرته يختفيان رويداً رويداً في الغسق، ويبقى وحيداً في الوجود. يقول: «رأيت الأرض الفسيحة المترامية الأطراف تبرز للعيان صدرها المثمر، ويعد ذلك أحد مظاهر النداء يشبه نداء النسوة لأبنائهن، ودعوة الأرض للظلام أن يأتي».تجمع «على قيد الحياة» بين أوجه الصين التاريخية وبين الأبعاد العاطفية فيها. وعلى هذا المنوال، يستهدف الكاتب الواقعي قلبنا، زارعاً من خلال بطله الآمال لدينا. يصوِّر الإنسان عموماً كأنه، كما «فو قوي»، «بطل الوجود» في وجه الهمجيَّة والوحشيَّة. الأكثر مبيعاًيبرز يو هوا كأحد كتّاب الصين المعاصرين (54 عاماً). بعدما امتهن طب الأسنان، التحق بقسم الأدب في جامعة المعلمين في بكين، ليدخل غمار الإبداع الأدبي في عام 1983. أصدر روايات صارت سريعاً «الأكثر مبيعاً» في العالم، فتحوَّلت روايته الثانية «العيش» إلى فيلم سينمائي أخرجه زانغ يمون (حاز جائزة التحكيم الكبرى في مهرجان كان السينمائي العام 1994). دفع الفيلم الحكومة الصينية إلى منع المخرج المرشح للأوسكار من العمل عامين.منح ذلك يو هوا شهرةً استغلها إيجاباً عبر كتابات لاذعة تناول فيها عبثيّة العيش في الصين حيث تتماشي الشيوعية مع الحداثة، ذلك في مقالات أبرزها {الصين بعشر كلمات}، بالإضافة إلى نصوصه في صحيفة {نيويورك تايمز} ورواياته على غرار {الإخوة}. حصد جوائز عدة، من بينها: {جرينزانا كافور} الإيطالية 1998، {جيمس جويس} 2002، ووسام الفنون والآداب من فرنسا 2004.أصدر الكاتب أخيراً The 7th Day (اليوم السابع). فيها يبتعد عن الثورة الثقافية ليركز على الصين خلال الأعوام الـعشرين الماضية. وسبعة أيام بعد الوفاة، في التقليد الصيني، مرحلة تجوب فيها روح الميت أماكن ألفها خلال حياته. واللافت أن أبطال الرواية هم الأموات بعالمهم الذي يبدو رائع الجمال مقارنة بعالمنا.الكاتب المتأثر بكافكا وكواباتا وفولكنر، كما يقول، يصف نفسه بالكاتب الواقعي، وإن كانت رواياته عبثية. فهي برأيه تصف عبثية واقعنا، التي لا تنفك تلاحقه. هو كلما عاد بذاكرته إلى الماضي أدرك أنه عاش محاطاً بالغرابة. يذكر: «سيطرت العبثية على الثورة الثقافية، وهي على تزايدٍ اليوم. ولكن عندما تصبح خبزك اليومي، تكف عن ملاحظتها وتصبح أمراً طبيعياً». ويروح يصف كيف أن صور ماو تسي تونغ غطت الجدران كلّها خلال الثورة الثقافية، حتى جدران المراحيض، ولم يستغرب أحدٌ ذلك. و{اليوم، كما في حينها، اعتدنا الغرابة في حياتنا اليومية ولم نعد نكترث لها. لا ينفك المجتمع الصيني يتغيّر بسرعةٍ وغرابةٍ. ودوري ككاتبٍ واقعي أن أبقى منتبهاً إلى هذه التغيرات».إذا زرتَ الصين سائحاً ستلاحظ في الفنادق إشارة «ممنوع التدخين» تجانبها منفضةٌ، يو هوا يود الكتابة عن هذه المنفضة، كما يقول.