ينشغل العراقيون بإعداد جردة حساب عام 2014، بوصفه عام الزلازل السياسية والعسكرية، الذي شهد حدثَين كان يصعب تصور حصولهما بهذه السرعة، وهما سقوط 30% من البلاد بيد «داعش»، والرحيل الهادئ لرئيس الحكومة السابق نوري المالكي الذي عجز عن حماية موقعه ولم ينفذ تهديداته مع الخصوم الذين أطاحوا به.

Ad

لكنّ هذين الحدثين لا يمكن فهم دلالاتهما ونتائجهما دون ملاحظة وافية لجذر الوقائع السياسية لهذه السَّنة، إذ كان المسار الاستراتيجي يتحدد بتحول عميق في مسار النفوذ الإيراني في بغداد والعودة الأميركية القوية إلى العراق.

ورغم أن المراقبين انشغلوا بمحاولة تحديد مَن الرابح بعد كل ما جرى، إيران أم أميركا، فإن ساسةً بارزين لا يجدون أهمية لتحديد الأكثر ربحاً والأقل خسارةً، بقدر ما ينادون بضرورة التدقيق في تقاربٍ من نوعٍ ما، بين واشنطن وطهران، وعملية تحاشي الاصطدام الجادة التي شهدتها ميادين القتال المتداخلة غرب بغداد وشمالها.

فمنذ 6 أشهر يعمل نحو ثلاثة آلاف ضابط أميركي في غرف عمليات مشتركة مع القيادات العراقية، وتصدر من هناك أوامر وتحركات وينشأ تنسيقٌ عالٍ بين الأرض العراقية والسماء الأميركية، وفي نفس الوقت فإن مئات الضباط الإيرانيين كانوا يعملون «على الطرف الآخر من الهاتف» مع قطعات الجيش العراقي والميليشيات الشيعية وآلاف المتطوعين، وقد أنجز الطرفان (إيران وأميركا) عملاً مهماً في إسناد العمليات ذاتها، في حزام بغداد، وعلى تخوم الأنبار، وديالى، وحوالي تكريت، ولعلها أول مناسبة عسكرية من نوعها، تجمع إمكانات واشنطن وطهران ومواردهما، بهذا النحو شبه المعلن، وفي أخطر مناطق التماس الطائفي في الشرق الأوسط.

وهكذا فإن النصف الأخير من 2014 لم يكن مجرد ظهور مباغت لـ»داعش»، ولا إطاحة بسياسات المالكي، بل كان تنسيقاً غير معهود بين العدوَّين اللدودين، فمن جهة بدا أن واشنطن ترضخ لدور إيراني تريده مقيداً، حتى أنها قَبِلت بوزيرٍ للداخلية من منظمة بدر القريبة جداً إلى حرس الثورة وجنراله الأشهر قاسم سليماني.

وفي الوقت نفسه فإن إيران وافقت على حضور مجدد واسع لـ»البنتاغون»، في الأرض والسماء، وقبلت على مضض قراراً أميركياً يشترط على بغداد إصلاحات سياسية عميقة تمنح دوراً أكبر للأكراد، وتعترف لأول مرة بأن السُّنة العراقيين قوة تستحق صلاحيات بمستوى الحكم الذاتي وبمستوى امتلاك تشكيلات مسلحة لحماية محافظاتهم، وهو مناخ تغييرات استفاد منه معتدلو الشيعة ونجحوا في إقناع طهران بقبول الإطاحة بالمالكي وجزء كبير من سياساته.

وفي نهاية هذا العام يمتلك المحلل معطيات واضحة نسبياً عن الوقائع الأبرز في السياسة العراقية، فالتقارب النادر بين واشنطن وطهران في غرف عمليات واحدة تقريباً، لم يكن له أن يتم لولا وساطة قام بها معتدلون شيعة حريصون على التمسك بمساعدات أميركية، كما أن هذا التقارب لم يتم بطلب شيعي وحسب، بل بطلب كردي أيضاً، حيث قالت أربيل بوضوح إن العمل مع إيران كواقع حال فرضه «داعش»، أمر لا مناص منه، لوجستياً وسياسياً.

وسيجري تكريس العام الجديد للإعداد لعملية كبرى تطرد «داعش» من نينوى والأنبار، وليس من المتصور أن يكون هناك دور إيراني في عمق الأراضي السنية تلك، لكن «البنتاغون» لا تدير مجرد عمل عسكري، بل هناك جانب سياسي سيتولى رسم الأوضاع بعد «داعش»، والصلاحيات السياسية والأمنية التي ستصوغ علاقة جديدة بين سنّة العراق وحكومة حيدر العبادي الإصلاحية.