أوروبا اليوم، والعالم معها، يستعيدان بمزاجٍ مأزوم الذكرى المئوية لاندلاع الحرب العالمية الأولى. 16 مليون قتيل بين جندي ومدني، تسميهم حكوماتُهم شهداء، لستر عورة الجريمة. عجلةُ الحماقة البشرية مازالت تدور حتى هذه اللحظة، لتهرس أجساداً، وتُزهق نفوساً. فعاليات كثيرة بهذه المناسبة في لندن، اكتفيت منها باثنتين لا أَنشُد فيهما السلوانَ، أو استعادة ما لم أرَ، ففي سِلالنا من عظام قتلانا ما يكفي لنسيان الماضي، والاكتفاء براية الحاضر السوداء: اخترتُ "قداس الحرب الجنائزي" للموسيقي الانكليزي بنجامين برِتِن (1913 ــــ 1976). واخترتُ مجموعة شعرية صدرت مترافقةً مع المناسبة، عن دار كركنيت للشاعرة الانكليزية جيني لويس بعنوان Taking Mesopotamia، تستعيد فيها وتخاطب أباً لها كان جندياً بريطانياً في العراق ابان الحرب.

Ad

لقد رجعتُ تواً من "قاعة ألبيرت الملكية"، التي قدمتْ هذا العمل الكورالي الضخم لواحد من أعلام الموسيقى الانكليزية في القرن العشرين. كان مع مجايله الموسيقي مايكل تِبَت (1905 ــــ 1998) أبرز دُعاة سلام، حتى ان الأخير فضّل أن يدخلَ السجن على أن يشاركَ جندياً في الحرب العالمية الثانية. كلاهما وضع عملاً موسيقياً ضد الحرب، ولكن تِبَت كان أكثر تفاؤلاً في عمله "طفل زماننا" من قدّاس برِتَن هذا. فـ"قداس الحرب الجنائزي"، الذي يتشبث، في ألحان الحركة الأخيرة على الآلة أو حنجرة المغنين، بشيء من الأمل أو يكاد: "دعونا ننام الآن.."، أو "علَّ ملائكة الرحمة تستقبلكم في فردوسها.."، إلا أن لحن الختام يلاشي هذا الأمل الباهت اللون تماماً.

"القدّاس الجنائزي" عملٌ كوراليٌّ موروث ومألوف في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية، عادةً ما يؤلف على أرواح الميت، أو الموتى. ولعل أشهرَ الأعمال فيه قدّاسٌ لموتسارت، تشيروبيني، بيرليوز، بروخنر، برامز، فيردي، دفورجاك، فوريه، وقداس برِتِن هذا.

وتقديم هذا العمل في RAH، ينطوي على أكثر من عنصر يُفضل التعرف عليه: إنه مرثية لقتلى الحرب العالمية الأولى، وقد كانت حربَ طمعٍ استعماري بين قوات الحلفاء (بريطانيا، فرنسا وروسيا)، ودول المركز (الامبراطوريات الألمانية والنمساوية والعثمانية وبلغاريا). تحالفات أشعلت الذريعةُ فيها أزمةً دبلوماسية نشبت على أثر اغتيال ولي عهد النمسا مع زوجته، اثناء زيارتهما الى سراييفو في 28 تموز 1914. ثم ان العمل الكورالي يعتمد، إلى جانب نص القداس اللاتيني التقليدي الذي يتكون من ستة أجزاء، على 9 نصوص شعرية لواحد من أبرز قتلى الحرب من الشعراء الانكليز: وِلْفريد أوين (1893 ــــ 1918).

كان أوين مدفوعاً شأن الشاعر الرومانتيكي (كان بالغ التأثر بالشاعر كيتس) لدور البطولة، ودورِ أن يكون شاعرَ حرب. فبالرغم من أنه تعرض لصدماتٍ أفقدته وعيه، وعولج في مصحات خارج خنادق الحرب، إلا أنه عاد ليقاتل ويكتب "كان يحاكي صديقه الشاعر الأكبر سناً سيجفريد سَسون، مع أن هذا حاول منعه من العودة". قُتل في إحدى الجبهات في فرنسا في 4 نوفمبر 1918، قبل أسبوع واحد من إعلان الهدنة. وبقي شعره إدانة دامية:

"ما الأجراسُ العابرةُ من أجل أولئك الذين يموتون كالماشية؟

وحده الغضبُ الوحشي لصوت الرصاص،

وحدها حشرجاتُ الموت السريعة للبنادق المتعثرة...".

وزع بنجامين برِتِن، في عمله هذا الذي ألفه عام 1961، نصوصَ الشعر على أصوات التينور (الصداح) والباريتون (المعتدل) الرجاليين كأصوات مقاتلين. وأفردَ صوتَ السوبرانو والكورس لنص القداس اللاتيني. ثم غمر الجميع في محيط الأوركسترا، مع الأورغن الذي يشكل خلفيةً معتمة. في العرض الأول اشترط المؤلفُ أن يتشكلَ المغنون الثلاثة من ثلاثة بلدان اصطرعت في الحرب: انكلترا، ألمانيا، روسيا. وفي هذا العرض الجديد الذي شاهدته محاولةٌ للحفاظ على الشرط ذاته، مع ثلاثة أصوات رائعة: البريطاني برايل تيرفِل، الألماني ستيفان روغامير، الروسية إيفيلينا دوبراسيفا.

أصداءُ "قداس" الإيطالي فيردي تلوح بين تفاصيل هذا القداس. ولكن النزعةَ البطولية لدى فيردي تصبح هنا مرثية دون تمجيد للحرب ولا احتفاء بانتصاراتها.