في الدول الديمقراطية تعتبر مؤسسات الدولة ملكا للجميع، فهي التي تحفظ حقوقهم العامة، وتحميهم من تغول السلطة الحاكمة، فلا تستطيع الحكومة استخدامها في غير أغراضها المشروعة أو تجييرها لمصالحها الحزبية أو المصلحية الضيقة، أما في الدولة البوليسية والقمعية فلا يوجد فصل بين مؤسسات الدولة والحكومة التي تعمل عادة على تجيير مؤسسات الدولة وأجهزتها لمصلحة الحزب الحاكم أو القِلة القليلة الحاكمة.

Ad

 أضف إلى ذلك أن تاريخ البشرية يُوضح أنه كلما ازداد احتكار السلطة والثروة ضاق هامش الحريات العامة والعكس صحيح، فالسلطة السياسية تابعة عادة للسلطة الاقتصادية، وعادة ما تسعى القلة المسيطرة إلى قمع الرأي الآخر، ثم فرض قيمها، وآرائها، وإعلامها، ومناهجها، وثقافتها أيضا، ناهيك عن أنها لا تكتفي بأن يلوذ الناس بالصمت، إذ تعتبر ذلك نوعا من أنواع الاحتجاج الصامت، فتقوم بإرغامهم على التهليل، والنفاق، والتزلف، والتصفيق لجميع قرارات الحزب الحاكم وممارساته أو بشكل أكثر دقة لقرارات ما يطلقون عليه "قائد الضرورة" كما كانت الحال، مثالا لا حصرا، في العراق أثناء حكم الطاغية صدام، أو أثناء حكم الأسد في سورية، والقذافي في ليبيا، ومبارك في مصر، وصالح في اليمن.

جميع الدول الاستبدادية في كل أنحاء الكرة الأرضية تُسوّق إعلاميا لقوانينها وإجراءاتها البوليسية التي تقمع الحريات أو تُضيّق عليها من خلال ربطها بشكل قسري في موضوع الأمن، بالرغم من عدم صحة ذلك، حيث إن شعور الإنسان بالأمن الحقيقي لا يتحقق إلا من خلال المحافظة على حقوقه كإنسان أولا، وثانيا من خلال مشاركته في اتخاذ القرارات العامة التي تؤثر في حياته المعيشية وتتحكم في مستقبله، أي في الأنظمة المدنية الديمقراطية العصرية التي تحافظ على كرامات الناس، وتحمي حرياتهم العامة والشخصية وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير التي تُميز البشر عن بقية الكائنات كي لا يتحولوا إلى مجرد قطيع يتلقى الأوامر والتوجيهات التي تصلهم من الحزب الحاكم أو القِلة الحاكمة وينفذونها، وهم يصفّقون من دون نقاش أو احتجاج واعتراض.

ومن زاوية ذات صلة فإن تاريخ البشرية يُبيّن أيضا أن الأنظمة البوليسية والقمعية التي تقوم على احتكار السلطة والثروة من القِلة القليلة، وما يرافق ذلك عادة من انتهاك لحقوق الإنسان وكرامته وغياب العدالة الاجتماعية، هي أنظمة ضعيفة وهزيلة وهشّة من الداخل، لا تستند إلى أي ظهير شعبي حقيقي، وهو الأمر الذي يجعلها تستخدم مؤسسات الدولة وأجهزتها في غير أغراضها المشروعة، وذلك من أجل إحكام سيطرتها الزائفة التي سرعان ما تتهاوى مخلفة دمار الوطن، فالاستياء العام والغضب الشعبي يتراكمان تدريجيا، بالرغم من القوانين والإجراءات البوليسية، حتى يصلا إلى مرحلة لا يمكن السيطرة عليها بالوسائل القمعية كما حصل أثناء الثورات والانتفاضات الشعبية التي تفجرت في بعض البلدان العربية قبل أعوام قليلة.