للنثر أهلٌ ودار
كتب أمين نخلة «المفكّرة الريفيّة» متيقّناً من أنّ قلمه، وهو يجاذب الكلمات، يسعى إلى نصّ صحيح النسب إلى النثر، كما كان على يقين حين كتب «دفتر الغزل» من أنّ محبرته تفيض شعراً حلالاً.
اليوم، وفي الكتب المدرسيّة، يحلو لبعض المؤلّفين اغتيال نخله بصفته أميراً من أمراء النثر الفنّي في دنيا العرب، معتبرين نثره شعراً، والاغتيال نفسه يتعرّض له جبران وفؤاد سليمان وأمين الريحاني... وتسمية النثر الفنّي شعراً آتية من نظرة دونية إلى النثر، ومن تحامل عليه غير بريء ومشوب بكثير من الجهل أيضاً. وبمنتهى البساطة إنّ النثر الفنّي عندنا أمسى مستهدفاً، وبشكل مركّز، منذ أواسط القرن العشرين عندما بدأت الحداثة تبحث عن مكان لقصيدتها فلم تجده إلاّ على حساب خنق النثر في سريره قبل طلوع الضوء. لم تتوفّق الحداثة في تسديد الضربة القاضية للقصيدة الكلاسيكيّة ولقصيدة التفعيلة، على رغم مناداتها بأنّ القافية أفيون الشعراء والأوزان حبال مشانق لهم من حيث لا يدرون، واستمرّ نزار قبّاني ومحمود درويش وغيرهما أصحاب المساحة الكبرى في مشهد الشعر العربي إلى يومنا. غير أنّ الحداثة أساءت إلى النثر الفنّي لأنّ قصيدتها أتت بثيابه، وسرّحت شعرها بمشطه، وطيّبت بشرتها بعطوره الخاصّة. إنّ النثر الفنّي ذو بساط واسع جدّاً، يتّسع للعبة المجاز إلى آخرها، وهو حمّال تصريح وتلميح، وفيه لكلّ شكل من أشكال البوح مدى، وإذا كان سطره ممتلئاً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار فإنّ هذا الامتلاء مسألة من مسائل الإخراج الطباعي وليست تهمة، والأهمّ في هذا السياق أنّ التعديل في توزيع السواد على البياض، والتفاوت في عدد الكلمات على الأسطر، والإفراط في استعمال النقط، لا تجعل النثر شعراً، وإنّ خداع العين لن ينسحب أبداً على العقل العارف ولا سيّما إذا كان غير مصاب بعقدة النثر والشعر.
رغبة شرهة أين النثر الفنّي اليوم؟ إنّه بكلّ بساطة ميّت بالنسبة إلى السواد الأعظم من أهل الحداثة، وفي داره تقيم القصيدة الحديثة. والمؤسف أنّ معظم المتهافتين على مَنّ الشعر الحديث وسلواه، تملأهم رغبة شرهة في الحصول على لقب «شاعر» وتنقصهم الموهبة التي تثبت صاحبها وتكرّسه بلا منّة الصفحات الثقافيّة في الصحف وبخور المطبّلين والمزمّرين. لا يجوز أن تكون الحداثة عندنا قائمة على اغتيال كائن لغوي جميل اسمه النثر. فللحداثة دلالات أكبر، ومشروع أسمى وأعمق، لا يمكن أن يكون مرتبطاً بالشكل، وهي مطلوبة الوجود بإلحاح، وفي النثر كما في الشعر، والحداثة فعل متواصل منذ أوّل رجل وامرأة تعانقا تحت الشمس، وأجمل ما فيها أنها فعل من الداخل لا ردّ فعل أو انتقام من شكل حياتي أو شكل كتابيّ معيّن. مَن يردّ إلى النثر، السيّد اللغويّ الجليل، علّيّته ذات القرميد الشهيّ، وهو لا يزال حيّاً يرزق ومعه صك الملكية الأزرق الذي لا يزال يخبئه منذ أكثر من خمسين عاماً عن يد الكثيرين من أهل الحداثة الذين لا ينامون قريري العين قبل تمزيقه. لا شكّ أنّ القصيدة الحديثة موجودة، وباتت أكثر من الهمّ على القلب، لكنّها ضرب من ضروب تحديث النثر الفنّي لا الشعر، بصرف النظر عن الجدوى والنجاح في هذا التحديث. والفارق بين الكثير من نصوص الشعر الحديث وبين النصوص النثرية غير موجود، والتغيّر بين القليل من نصوص الشعر الحديث ونصوص النثر لا يتعدّى مسألة تركيب الجملة وصوغها على مستوى الأسلوب فقط، لأنّ النثر الفنّي ذو قدرات وإمكانات تعبيريّة كثيرة، وهو قابل للتحديث والتطوّر شأن كلّ كائن لغويّ حيّ. ولا بدّ من لفت النظر إلى أنّ الأدعياء كثرة على ضفاف الأنواع الأدبيّة كلّها، ولكن حين تُفتتح مواسم البكاء، نعود إلى المتنبّي قائلاً: «إذا اشتبهت دموعٌ في خدود / تبيّن مَن بكى ممّن تباكى». ولأنّ الأدعياء كثر، تبدو الضرورة ملحّة لإعادة التأسيس لزمن أدبيّ أصيل. وليس المطلوب أن يرمي أحد أحداً في البحر، إنّما نحن في حاجة – ولا أظنّ أهل الحداثة الأصيلين غير ذلك – إلى إعطاء كل نوع أدبيّ فرصته للحياة، مع العلم بأنّ النصّ الحقيقي يرفع الجرن فوق رأسه في مساحة الأدب سواء حضر المصفّقون أو غابوا.وصار من الضروري الاعتراف بأنّ النثر مظلوم، ومن حقّه أن يستردّ اسمه ومشطه وعطره وداره التي بناها بعرق الجبين، ومن حقّ أمين نخله أن يقاضي أمام التاريخ أيّ مؤلف كتاب مدرسيّ أمّيّ.تفعيل وتحوّلات ليس انتصاراً للحداثة أن نسمّي النثر شعراً إنّما الانتصار الحقيقي هو في أن تفعّل النثر والشعر وتمدّهما بكلّ ما تجود به حركة الحياة من جديد، فمن يمنعني اليوم من أن أورد نشرة الأخبار المسائية في نصّ طويل جدّاً، وأكتب في أسفله «... وأنا أحتجّ!»، من أن أسمّي هذه المعلّقة التافهة قصيدة حديثة. إنّ القصيدة العربيّة من امرئ القيس إلى محمود درويش مرّت بألف تحوّل وتحوّل، ولم تكن الحداثة يوماً غائبة عن شرفتها المطلة على الحياة من علوّ مشرّف، وليس من الخطأ، أو النقيصة، الاعتراف بأنّ الذين وقفوا على سطح مجلّة «شعر» يقنّصون كلّ شاعر يحمل على كتفه كيس القوافي كانوا مخطئين. وأثبت الزمن أنّ القصيدة العربيّة المرجومة بحجارة مسمومة لا تزال برئتين تستقبلان الهواء، وبعينين تريان مكانهما على أبراج الزمن الآتي. وهذا لا يعني أنّ القصيدة الحديثة ليس لها من يطلب يدها؛ إنّها موجودة وكرّس حضورها بضعة شعراء لا يرقى شكّ إلى موهبتهم الكبيرة. لكن، لا بدّ من إعادة الاعتبار إلى النثر، والاعتراف بأنّ قصائد المتنبّي وأبي نواس ومحمود درويش حديثة جداً، بشهادة ذاكرة العصر الذي لا يخجل غرباله من أحد. ولا بدّ من الإقرار، أيضاً، بأنّ المئات من أدعياء الشعر الحديث، وربّما الآلاف، ما وقفوا في مساحة القصيدة الحديثة دقيقة لو استطاعوا قصيدة واحدة كالتي تستحمّ صباحاً في محبرة نزار قبّاني. فلنعترف أنّ الشعر صعب والنثر أيضاً، ولْيَبْرِ كلٌّ قلمه على هواه، ولننصف النثر المظلوم بتهمة امتلاء السطر، ولنتّفق أنّ آخر دليل من أدلّة الحداثة هو الشكل وأنّ الأوان قد آن ليعود النثر إلى بيته معزَّزاً مكرَّماً، فليس صحيحاً أنّه مات وأنّ كل من يسير في جنازته المزعومة يحصل مجاناً على لقب شاعر.