الخليج وجدل الهوية
الخليج اليوم، أقصد دول مجلس التعاون، هو الكيان العربي الأكثر انسجاماً والأكبر انفتاحاً على العالم والأعظم إشراقاً وأملاً، نهضة عمرانية غير مسبوقة، تنمية شاملة، اقتصاد مزدهر هو الأعلى عالمياً، تعليم متطور وخدمات اجتماعية وصحية عالية، والأهم من كل ذلك وجود بيئة اجتماعية وسياسية آمنة ومستقرة، تتميز بكل المرافق والخدمات الجاذبة لاستثمارات العالم والعقول العربية المهاجرة. الخليج اليوم يكاد يكون المنطقة الأكثر حيوية، واستقطاباً للاستثمارات شرقاً وغرباً، إذ يحتضن أكثر من (200) جنسية بعاداتها ومعتقداتها وثقافاتها ولغاتها، في تعايش إنساني بنّاء ومثمر، وعلى امتداد أجيال متلاحقة، عاش الخليجيون – وبالرغم من صعوبات ومرارات الحياة- وتعاملوا مع مختلف شعوب الأرض – تجارة وترحالاً ومصاهرةً - دون عُقَد مرَضية أو انغلاق أو استعلاء، فالخليج بهذا الانفتاح والتواصل المستمر مع العالم، هو أكبر منطقة عربية (معولمة).
لكن إحساس الخليجيين يتزايد بأنهم أصبحوا «أقلية» تتضاءل يوماً بعد يوم، وسط طوفان بشري متدفق من دول الفائض السكاني ودول المجاعة، بحيث أصبحت نسبتهم تصل في حدها الأدنى (15 في المئة) في بعض الدول، لتصل إلى (50 في المئة) في حدها الأعلى في بعضها الآخر، وهي نسبة مرشحة لانخفاض أكبر، في ضوء توقعات باستيعاب أعداد أكبر من العمالة خلال العقدين القادمين، ومن هنا يتزايد إحساس الخليجيين بالخوف على هويتهم الوطنية، وبخاصة «الهوية الثقافية»، وهناك اليوم سيناريوهات متشائمة بمستقبل مظلم للخليج، تتنبأ بأن الخليج، في ظل هذا الطوفان العولمي، سيفقد هويته الثقافية وخصوصيته، وستضيع لغته وتذوب شخصيته، ومن الطبيعي أن يستشعر الخليجيون، هذه المخاوف، لكنني أرى في هذا الأمر مبالغة، وذلك لأسباب عديدة:1 - ها نحن بعد أكثر من نصف قرن من الانفتاح والتواصل مع العالم، لم نفقد شيئاً مما كانوا يخوفوننا منه، لا ذابت شخصيتنا ولا تلاشت خصوصيتنا ولا ضعفت ثقافتنا، ولا فرّطنا في شيء من الثوابت الدينية والوطنية والقومية، بل زادت رسوخاً وثباتاً.2 - «الهوية» الدينية والثقافية والوطنية أشبه بـ«البصمة» الوراثية لا يمكن ذوبانها أو فقدانها، وستظل «الهوية» راسخة، وهي أقوى مما يتصورها البعض، فقد واجهت – في الماضي- تحديات أعظم، ونجحت، قارن: المشهد الخليجي اليوم بالمشهد العربي العام، تجد الخليج هو «الجزء السليم الصحي في الجسم العربي» مقولة عبد الله بشارة الشهيرة.3 - هناك أمم وشعوب أكثر انغماساً في العولمة، كاليابان وشعوب جنوب شرق آسيا، ومع ذلك لم تفقد تلك الشعوب شيئاً من هويتها، أو ثقافتها، فكيف نخشى من رياح العولمة، ونحن أصحاب حضارة عريقة ومرجعية راسخة؟؟ 4 - علينا أن نتفاعل مع «العولمة» ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وإعلامياً، تفاعل القوي الواثق بنفسه وبدينه وبثوابته وبثقافته وهويته، لأن البديل هو الانغلاق والتطرف والجمود والتعصب، عندنا من الثوابت ما يعصمنا ويجنبنا ما يصاحب التغيير من سلبيات، وعندنا من قيم ديننا ومبادئنا ما يحمينا من الانفلات، فالتغيير حتمي، وإذا لم تبادر أنت إلى التغيير بالإفادة من معطيات العولمة، فإن الزمن لن ينتظرك، وسيأتي الآخرون ليغيروا رغماً عنك.5 - يجب ألا نخشى التفاعل - بإيجابية - مع ثقافات العالم، فعندنا من الثوابت ما يعصمنا من الذوبان، ثم إنه لا وجود اليوم لثقافة محلية صافية، لأن الثقافة اليوم، ثقافة كونية، لا تختص بقوم، بقدر ما هي تفاعل وتراكم جدلي من ثقافات عديدة، بل إن الثقافة الأميركية التي تكتسح العالم في ظل المد العولمي ما هي إلا ثقافة ممتزجة من ثقافات شعوب عديدة، ولذلك فهي مقبولة، عالمياً، وهذا مصدر التفوق الأميركي ومصدر القوة والإبداع عندهم، فهم يستقبلون هجرة دائمة، لعقول وثقافات جديدة، تتاح لها الحرية والاستقلالية الفكرية لتصوغ في النهاية ثقافة عالمية ممتدة.6- إن الاحتماء بحصن «الهوية» في عصر «العولمة» المكشوف، أصبح غير مجد، وهو يتناقض مع التوجه الخليجي نحو جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية بتطوير التشريعات المحلية، لتنسجم مع الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي توجب احترام حقوق الإنسان وإزالة التمييز بين البشر، وتطالب بالتدفق الحر عبر الحدود للبشر والمال في إطار من الشفافية والإصلاح الاقتصادي والسياسي.وأخيراً: فإن المد العولمي يشكل تحدياً كبيراً أمام الخليجيين، والأجدى من الانشغال بجدل الفزعة على «الهوية» على حكوماتنا، السعي نحو تفعيل التشريعات المتعلقة بالتوطين، وتشجيع الخليجيين على زيادة النسل عبر العلاوات التشجيعية المختلفة، ومنح الجنسية لمن ولدوا وأقاموا في دول المجلس، وتشجيع الخليجيات على زيادة مساهمتهن في العمل، وتطوير مناهج التعليم بما يلبي احتياجات سوق العمل، وتقرير حق المواطنة الخليجية في منح جنسيتها لأولادها وزوجها وتطوير التشريعات بما يتلاءم ومتطلبات العولمة الاقتصادية، فضلاً عن تطوير إجراءات ونظم استقدام العمالة، وإلغاء التمايزات بين أبناء المجتمع الواحد، وتفعيل مبدأ الثواب والعقاب والشفافية ومحاربة الفساد.* كاتب وأكاديمي قطري