داخل القاعة العامة لمجلس النواب اللبناني، تكرر المشهد 23 مرة على مدى أكثر من سنة: نواب يلتقون، يتبادلون المزاح والأحاديث قبل أن يتم إعلان ارجاء جلسة انتخاب رئيس لجمهورية تعاني من انقسامات حادة بين أطيافها السياسية.

Ad

وللمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990)، يشغر منصب الرئاسة لمدة سنة كاملة من دون أن يلوح في الأفق أي أمل بحصول عملية الانتخاب التي يؤكد محللون وسياسيون أنها رهن بمسار الأزمات المتفجرة في دول الشرق الأوسط لا سيما في سورية المجاورة.

وتقول سحر الأطرش من "مجموعة الأزمات الدولية" (انترناشونال كرايزيس غروب) لوكالة فرانس برس "الطبقة السياسية في حالة من الانتظار للتطورات في المنطقة، في انتظار أن يظهر شيء في سورية أو في الملف النووي الإيراني أو توافق ايراني سعودي، لكن المنطقة مقسومة، ولبنان ليس أولوية".

وتضيف "اليوم الرعاة الإقليميون يخوضون حروباً مباشرة أو بالوكالة، وملفات المنطقة أكبر بكثير من أن يلتقوا من أجل انتخاب رئيس في لبنان".

وحددت الجلسة الأولى لانتخاب رئيس في أبريل 2014، قبل شهر من انقضاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، وبعد 23 محاولة، لم يكتمل نصاب الثلثين (من 128) المطلوب لاتمام عملية الانتخاب، لدرجة أن اللبنانيين لم يعودوا يحفظون مواعيد الجلسات ولا يبالون بمجرياتها.

وينقسم النواب بين قوى 14 آذار، وأبرز زعمائها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، وهي الكتلة المواظبة على حضور الجلسات، وقوى 8 آذار أي حزب الله وحلفاؤه، ويتوزع المسيحيون بين الفريقين، كما يشارك في الجلسات نواب مستقلون ووسطيون.

وتطالب قوى 8 آذار التي تقاطع معظم مكوناتها الجلسات بالتوافق على اسم الرئيس، وتطرح اسم الزعيم المسيحي ميشال عون مرشحاً توافقياً، في المقابل، أعلنت قوى 14 آذار استعدادها للتخلي عن مرشحها القطب المسيحي الآخر سمير جعجع، مقابل التنازل عن عون واختيار مرشح مقبول من الطرفين، لكن التركيبة اللبنانية تجعل من الصعب جداً ايجاد هذا المرشح المثالي.

ويقر النواب أنفسهم بانتظار "كلمة السر" من الخارج.

ويقول النائب دوري شمعون من قوى 14 آذار "الاسوأ اننا لا نخجل من شغور منصب الرئاسة.. ومن أننا لم نبلغ بعد سن الرشد، ولا نزال نحتاج إلى تدخل خارجي لندرك واجباتنا".

ويقول النائب أيوب حميد من كتلة حركة أمل حليفة حزب الله "من المحزن اننا اعتدنا أن يكون هناك في الخارج من يمون علينا، يبدو اننا لا نزال ننتظر هذه المونة المستبعدة لأن الغير مشغول بحاله".

وتدعم سورية وايران قوى 8 آذار، بينما تحظى قوى 14 آذار بدعم السعودية والولايات المتحدة وفرنسا.

بعد انتهاء الحرب الأهلية العام 1990، تمكنت دمشق أو "قوة الوصاية" من دون منازع آنذاك في لبنان، من فرض رئيسي جمهورية، في 2008، بعد تقلص النفوذ السوري، بقي لبنان سبعة أشهر من دون رئيس على خلفية الانقسام ذاته القائم اليوم، إلى أن تم انتخاب سليمان "رئيساً توافقياً" بوساطة قطرية بعد صدامات دموية.

وينعكس عدم انتخاب رئيس شللاً في المؤسسات، على الرغم من أن رئيس الجمهورية لا يتمتع بصلاحيات واسعة، إلا أن المسيحيين الذين يعود لهم المنصب (للطائفة المارونية تحديداً) بموجب التركيبة الطائفية اللبنانية، يرفضون المشاركة في أي جلسات تشريعية قبل انتخاب الرئيس.

ويقول رئيس مصلحة الإعلام في مجلس النواب محمد بلوط لفرانس برس "مجلس النواب معطّل تشريعياً... هناك مشاريع ملحة كثيرة، بعضها (...) اتفاقات مع الخارج تتجاوز قيمتها المليار دولار سيخسرها لبنان إذا لم ينعقد مجلس النواب".

في هذا الوقت، تتولى الحكومة برئاسة تمام سلام (سني) "مجتمعة" بموجب الدستور، صلاحيات الرئيس، إلا أن الانقسامات السياسية إياها تحول غالباً دون حصول اجماع على قرارات عادية مثل التعيينات الأمنية والموازنة وحتى... إقرار قانون الايجارات.

لكن على الرغم من الأزمة السياسية المحتدمة في الداخل وأصوات المدافع القريبة، فإن الوضع الأمني مستقر نسبياً منذ أشهر في البلد الصغير الذي شهد في السنوات الأولى لاندلاع النزاع السوري سلسلة توترات أمنية خطيرة وتفجيرات انتحارية.

ويعزو الخبراء ذلك إلى أن لا مصلحة للفريقين الأساسيين في تفجير الوضع، فحزب الله منشغل بالقتال في سورية ولديه يومياً خسائر بشرية، كما أنه معني بأزمتي اليمن والبحرين، أما الحريري الذي يمثل تيار الاعتدال السني، فأعلن مراراً رفضه لكل عنف صادر عن المجموعات السنية المتطرفة متمسكاً بحصر كل السلاح في يد الدولة، ويعقد الطرفان دورياً "لقاءات حوار" للابقاء على التهدئة.

وتوضح الأطرش "ما يجعل الوضع ممسوكاً نسبياً هو ما يساهم في الوقت نفسه في اهتراء الدولة والمؤسسات، نحن رهينة هذه التوافقات التي تتم خارج مؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية".

ويطال الاهتراء الوضع الاقتصادي والمعيشي، إذ يستضيف لبنان 1,2 مليون لاجىء سوري يشكلون عبئاً ثقيلاً على البلد المحدود الموارد.

الشوارع المؤدية إلى ساحة النجمة حيث مقر البرلمان في وسط العاصمة مقفلة بمعظمها من القوى الأمنية وبعوائق حديدية أمام حركة السير.

ويروي عنصر أمن في المكان "قبل ثلاث سنوات، لم يكن في الإمكان السير في هذه الشوارع لكثرة عدد السياح والمتنزهين، لقد شاهدت بحزن كيف أقفلت المحال والمطاعم الواحد بعد الآخر خلال الأشهر الأخيرة".

ويقول استاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية عماد سلامة "طالما المنطقة في دوامة، سيكون من الصعب على المجموعات الطائفية في البلد التوافق على رئيس، لا يوجد حل حالياً للوضع، الحل الوحيد الممكن سيكون جزءاً من حل إقليمي، لا سيما في سورية".