كلما كانت والدتي تكلمني عن زواجها من والدي منذ 35 سنة، كانت تنهي كلامها دوماً بمقولة عائلية: {لطالما كنت سيدة نفسي ولطالما كنت سيّد نفسي أيضاً. فقد اضطررتُ إلى تحمّل أعبائي في كل يوم من كل سنة، وأعني كل كلمة أقولها}.

Ad

أفهم ما تقوله والدتي. إيران هي البلد الذي وُلدتُ فيه، وقصدتُ المدرسة فيه، وعملتُ فيه كصحافية محترفة طوال 20 سنة: لهذا البلد خصوصياته من حيث السلطة والدين والمصير، ما يجعل امرأة مثل والدتي مضطرة إلى أداء دور مزدوج كامرأة ورجل طوال حياتها. لا يمكن أن أعتبر إيران بلداً فريداً من نوعه من هذه الناحية، لكني أعلم أنه المكان الوحيد في العالم الذي يتمسك بهذه الخصوصيات بطريقة جازمة، وهو مكان تُعتبر فيه المرأة مساوية للرجل على جميع المستويات وغير مساوية له على جميع المستويات أيضاً.

اضطررتُ إلى تفتيش حقيبة الظهر الخاصة بي لإيجاد مزيل طلاء الأظفار والقطن الذي كان سينقذ يومي. لم يكن طلاء أظفاري بارزاً جداً. بعد أيام على غسل الصحون والطبخ، كان اللون أشبه ببقعة متلاشية. لم أكن أحاول إغراء أي رجل بأظفاري الجذابة، لكني كنت متّجهة للقاء رجل دين وإجراء مقابلة رسمية معه في قسم الطبوغرافيا التابع للقوات المسلحة في جمهورية إيران الإسلامية. ما كان رجل الدين ولا قسم الطبوغرافيا ليُسَرّا لدى رؤية أي لون أضعه، سواء كان خفيفاً أو قوياً. لذا فركتُ تلك الأظفار بكل ما وجدتُه في حقيبتي ثم وضعتُ القطن الذي تفوح منه رائحة قوية في أحد جيوب حقيبة الظهر. بعد ذلك، وضعتُ حجاباً لائقاً. ما كان يمكن أن يدخلوني وأنا أضع وشاحاً بسيطاً. وضعتُه على رأسي كي لا يظهر شيء من شعري. حين كنت أحضّر نفسي، بالكاد نظر إليّ بقيّة الركاب في سيارة الأجرة، إذ لم يكن هذا المشهد غير مألوف في النهاية.

مثلما توقعت، كان لقسم الطبوغرافيا مداخل منفصلة للرجال والنساء. أخذتُ نفساً عميقاً ودخلت. سألتني امرأة ترتدي الشادور عمَّا أريده. فأخبرتُها بسبب مجيئي. فسألتني إذا كنت واثقة من أن الحاج آقا موجود اليوم: {في العادة، هو لا يأتي في مثل هذا اليوم}. أخبرتُها مجدداً عن موعدي مع الحاج آقا في العاشرة صباحاً وقلتُ لها إن الوقت بدأ يداهمني. فرمقتني المرأة مجدداً بنظراتها. ثم قالت: {معطفك قصير جداً. كما أنك تضعين التبرج. لا، لا تستطيعين الدخول}. كان معطفي يصل إلى تحت ركبتيّ ولم أكن أضع أي تبرج. فنظرتُ إليها. في تلك اللحظة، رنّ هاتفي وكان الحاج آقا شخصياً. لقد أراد أن يعرف إذا وصلت. كان سيسافر إلى مكة في وقت لاحق من ذلك اليوم ولم يكن يستطيع تحمّل أي تأخير. أخبرتُه بأنني عالقة على الحاجز الأمني في الأسفل وأنهم لا يسمحون لي بالدخول: {هم يقولون إن شكلي ليس مناسباً}. فتفاجأ ثم ثار غضباً. طلب مني أن أنتظر في مكاني وأخبرني بأنه سينزل خلال دقيقة.

حتى ذلك الوقت، كنت أعرف الحاج آقا من المقالات التي يكتبها حصراً. فبدا لي مسؤولاً مثقفاً وبراغماتياً ومنطقياً، ولهذا السبب اتصلتُ به لإجراء مقابلة معه. شاهدتُه في تلك اللحظة وهو يقول للمرأة على الحاجز الأمني: {هذه السيدة ستصعد معي}. فردت المرأة فوراً: {لكن يا حاج آقا، حجابها ليس مناسباً ومعطفها قصير جداً وهي متبرّجة}.

هو لم يأخذ عناء النظر إليها هذه المرة حين أصدر الأمر إليّ: {تعالي معي!}. تبعنا صوت المرأة من الحاجز الأمني: {يا حاج آقا، إذا حصل شيء، أنت تتحمل المسؤولية!}.

ما هو {الشيء} الذي يمكن أن يحصل؟ هذا ما تساءلتُه حين كنت أتبع رجل الدين إلى مكتبه. أي عار يمكن أن تسببه مراسلة قصيرة وعادية الشكل تنتعل حذاءً رياضياً رمادياً ومعطفاً زيتياً وتضع وشاحاً أسود على رأسها في قسم الطبوغرافيا التابع لجيش جمهورية إيران الإسلامية؟

حين أصبحنا في مكتبه، لم ألطّف كلامي. بل سألتُ رجل الدين مباشرةً: {لماذا تُعامَل النساء بهذه الطريقة في المكاتب الحكومية؟ هل سأحوّل هذا المكان إلى معقل للرذيلة لمجرد أنني لا أرتدي الشادور؟}.

فصمت لدقيقة ثم قال: {هل تعلمين؟ منذ أيام، سُرقت سيارتي بالقرب من مستديرة الأرجنتين. فقصدتُ مركز الشرطة المحلي للإبلاغ عن الحادثة. سمعتُ الناس الذين كانوا يقفون ورائي في الصف وهم يهمسون في ما بينهم. هل تريدين أن تسمعي ما قالوه؟ {من يسرق من المُلّا هو شخص فاضل!}. هذا ما قالوه وراء ظهري. لكني لم أجب بشيء. هل تعلمين السبب؟ لأن الناس غاضبون منا نحن رجال الدين ومن حقهم أن يغضبوا. نحن لم نكن منصفين معهم. بل إننا لم نكن منصفين مع هذا البلد كله منذ الثورة الإسلامية. لذا أقول لكِ أنتِ: {من حقك طبعاً أن تنزعجي}. لكن... لا تتوقعي مني أن أكرر أياً من هذا الكلام في مقابلتنا}.

{لنقل إني وصلت لإجراء مقابلة في الجامعة وأنا أضع طلاء أظفار زهري اللون. ما سيكون رأيك بي حينها؟}

{حاج آقا، أشك بحصول أي مقابلة في هذه اللحظة}! كنت أنظر إلى الهيكل المجعد للمسجّلة التي أستعملها في مهنتي. لقد أدى القطن المليء بالأسيتون في الجيب الجانبي من حقيبة الظهر إلى تآكل ميكروفون الجهاز. أصبح الجهاز غير نافع الآن لكني طرحت سؤالي في مطلق الأحوال: {أنت تعلّم علم النفس الاجتماعي في الجامعة. لنقل إني وصلت لإجراء مقابلة في الجامعة وأنا أضع طلاء أظفار زهري اللون. ما سيكون رأيك بي حينها؟ هل سيعاملونني هناك مثلما عاملوني هنا اليوم؟}.

فنظر إليّ لفترة طويلة وكأنه يحاول إخباري بأمرٍ ما – لقد حاولتُ أن أنقل لك، أنتِ بصفتك مراسلة، نواياي الصادقة كرجل دين ومسؤول رسمي في الجمهورية الإسلامية. ومع ذلك تصرين على أداء دور العنيدة معي؟

بادلتُه النظرات وفكرتُ في نفسي: ما الذي تتوقعه من امرأة، ومراسلة في الوقت نفسه، من هذه البلدة؟ عند النظر إلى الوضع من مختلف جوانبه، يتضح أن هذه البلدة هي التي علّمتني أن أكون قاسية. هذا البلد هو الذي يجبرني على التصرف بهذا الشكل وعلى طرح الأسئلة التي أطرحها.

فعدّل عمامته قليلاً وقال: «لو أنك جئت إلى مكتبي منذ سنتين وأنت تضعين طلاء أظفار زهريّ، ما كان رأيي بك ليكون إيجابياً».

منذ سنتين، كنا في العام 2009، أي سنة «الحركة الخضراء» التي شهدت تظاهرات واعتقالات واسعة في الشوارع. ادعيتُ أنني لم أفهم معنى ذلك وسألتُه: «ما الذي حصل منذ ذلك الوقت وجعلك تغير رأيك؟».

فأجاب وكأنه يجاريني في لعبتي: «لم أكن أعني سنتين تحديداً. ما أعنيه هو أنني سافرتُ كثيراً على مر السنين. وقد شاهدتُ جزءاً من العالم حتى الآن، لكنّ الأهم من ذلك هو أنني كنت أقرأ مؤلفات تاريخية كثيرة. سأخبرك بأمرٍ ما. كشفت لي دراسة التاريخ أموراً قيّمة كثيرة». ثم حدّق بهاتفي الخليوي الذي بدأ يهتزّ على الطاولة من دون إصدار أي صوت.

{يا حاج آقا، إذا كان الهاتف يزعجك، سأضعه في حقيبتي}.

{يمكنك الردّ على هذا الاتصال}.

كان رب عملي في الصحيفة يتصل بي. لقد أراد أن يعلم متى سأعود إلى المكتب. بدا الانزعاج واضحاً في صوتي وأخبرتُه بأنني أجري مقابلة. فاعتذر وقال لي إنه يعلم بمكان وجودي لكنه مجبر على الاتصال بي في مطلق الأحوال. ثم توقف عن الكلام وأضاف: {ثمة امرأة هنا. هي تقول إنها لن تغادر إلى أن تقابلك. هي تقول...}. توقف مجدداً وتمتم بنبرة غريبة: {هي تقول إنك كنت على علاقة مع زوجها}.

لقد وُلدتُ في مدينة مشهد، المدينة الأكثر تديّناً في إيران، وهي تُعتبر على الأرجح أكثر تديناً من مركز السلطة الدينية في مدينة قم لأن أحد الأئمة الشيعة الاثني عشر مدفون في مشهد. مشهد هي مركز مهم للحج بالنسبة إلى الشيعة من أنحاء العالم لكني لم أشعر يوماً بأنني أنتمي إلى هذا المكان. بل كنت أتوق دوماً إلى العاصمة طهران منذ عمر الحادية عشرة، حين كنت أقرأ كتاب {عن العبودية البشرية} للكاتب سومرست موم، واكتشفتُ من كتاب علم الأحياء الذي يدرس فيه شقيقي الأكبر من أين يأتي الأطفال. حين بلغتُ الخامسة عشرة، جلبتُ خارطة للمدينة وكنت أحدق بها لساعات. كنت أفتح تلك الخارطة على الأرض في شقتنا العائلية التي كانت تقع في حيّ صناعي وبلغت مساحتها 55 متراً مربعاً وعاشت فيها عائلتنا المؤلفة من ثمانية أفراد، وكنت أحاول حفظ جميع تفاصيل العاصمة الإيرانية عن ظهر قلب.

حين وصلتُ أخيراً إلى طهران للدراسة في الجامعة، شعرتُ بأنني أعرف هذا المكان منذ زمن بعيد. المتاحف والمواقع التي كتب عنها الشعراء والأحياء التي صُوّرت فيها مشاهد الأفلام: لقد أصبحت العاصمة ملكي الآن! تلك هي مدينتي. حصلتُ على وظيفة بسرعة في إحدى الصحف حيث استطعتُ جني مصروف الجيب وكنت أتجول في كل مكان.

{المرأة، على عكس الرجل، يجب أن تخاف. لكنك لا تخافين، يا ابنتي، لذا أنا أخاف عليك}.

كان والدي يخاف على ابنته دوماً، فيتصل بي ويقول لي: {أرجوك لا تذهبي إلى أي مكان وحدك!}. وحين لا يتلقى مني أي جواب كالعادة، كان يضيف إحدى العبارات التي يكررها في أغلب الأحيان: {لا يستطيع الرجل أن يدقّ مسماراً في الحجر}. ثم كان يقتبس قولاً شهيراً من الإمام علي، الإمام الشيعي الأول: {الخوف، وهو أسوأ صفة في الرجل، هو من أفضل الصفات عند المرأة}. ثم يتابع قائلاً: {المرأة، على عكس الرجل، يجب أن تخاف. لكنك لا تخافين، يا ابنتي، لذا أنا أخاف عليك}.

{أنا أخاف عليك يا حبيبه}.

أخبرني رب عملي في الصحيفة عن حضور تلك المرأة بعد أن وقف وأغلق الباب لمنع المتطفلين من معرفة ما يحصل، فقد كان الناس يتوقون إلى معرفة المزيد عن المرأة التي اقتحمت مكتبنا وادّعت أنني أقمت علاقة مع زوجها. لم تكن المرأة مخطئة لكنّ الزوج الذي كانت تتحدث عنه هو رجل قابلتُه للمرة الأخيرة تحت جسر سيد خندان منذ سنتين. قابلتُه في ذلك اليوم لأخبره بأنني لا أريد رؤيته بعد الآن لأنه كذب علي وزعم أنه ليس متزوجاً.

لم أكن مضطرة إلى تفسير أيٍّ من هذه التفاصيل لربّ عملي لكني فعلت. بعد أن أنهيتُ كلامي، قال لي: {في مطلق الأحوال، لا يمكن أن تحاولي تبرير نفسك أمام جميع الأشخاص الذين حرّضتهم هذه المرأة ضدك. هل تفهمين؟ الناس سيحكمون عليك لأنهم اعتادوا على ذلك وهكذا هي إيران. لا تنسي! من الأفضل لك ألا تأتي إلى العمل طوال أسبوع بحسب رأيي. دعي بعض الوقت يمر كي ينسى الناس هذه المسألة كلها}.

فوقفتُ وقلت له: {سأتابع تحضير التقرير الذي يجب أن أسلّمه غداً}. ثم توقفتُ لبرهة وتابعتُ قائلة: {سأكون في المكتب في الصباح الباكر}.

فكرر ربّ عملي: {أنا أخاف عليك يا حبيبه}.

حين عدتُ إلى مكتبي، شعرت بثقل {الحكم} الذي تحدث عنه رب عملي. ادعى زملائي المراسلون أنهم منشغلون في ملفاتهم وشاشات حواسيبهم، لكن عَكَس صمتهم أسئلة ضمنية واضحة: ما الذي تفعلينه هنا حتى الآن؟ لماذا لا تبكين؟ ألا تشعرين بالإحراج؟

كان مكتبي يقع بالقرب من مكتب الآنسة أحمدي المسؤولة عن تحرير الصور، مع أنّ ما تقوم به فعلياً هو {تحسين} أنواع الصور التي يعتبرها المسؤولون {غير لائقة}. كنت أعرف أن الآنسة أحمدي تعيش وحدها. لكن رغم راتبها الضئيل، كانت المعيلة الوحيدة لوالدتها وشقيقتها الصغرى. حين جلستُ على مكتبي، لاحظتُ أنها كانت منشغلة باستعمال برنامج {فوتوشوب} لإضافة ياقة إلى عنق نيكولا كيدمان المكشوف ولتغطية كتفيها. ربّتُ على ظهرها وقلت لها: {بالإضافة إلى عملك عبر برنامج {فوتوشوب}، يمكنك أن تعملي كخياطة أيضاً. فكري بجميع الأكمام والياقات والسراويل التي ابتكرتِها من لا شيء من أجل النساء الشهيرات طوال هذه السنوات!}.

فابتسمت واستبدلت نظاراتها بأخرى: {لن تصدقي ما يحصل يا حبيبه. في هذه الأيام، حين يرسلون لي الصور، ما ألاحظه فوراً هو كمية الأجزاء المكشوفة التي أضطر إلى {تعديلها} من كاحل وصدر وذراع وكتف. أقسم بالله أنني أصبحت مثل هؤلاء الشبان المتسكعين الذين لا يرون إلا العري في كل مكان}. ثم قرّبت الصورة على جسم نيكول كيدمان المدهش للتأكد من أنها لم تترك أي جزء ظاهر منه.

هنّأتُها على عملها وقلت لها إن {ما تفعله متقن جداً}.

فاستدارت نحوي وقالت: {متقن؟ بصفتي ماذا؟ مثل شاب لا يفكر إلا بأجساد النساء؟}.

فضحكنا معاً.

كانت المرة الأولى التي أضحك فيها في ذلك اليوم.

{لكنّ هذه المسألة لا تدعو إلى الضحك يا حبيبه}.

كنت أفتّش في حقيبتي كالعادة بحثاً عن سيجارة. وكنت أعلم أن صمتي يثير أعصاب صديقتي شهرزاد. عادت شهرزاد من باريس لتمضية يومين من عطلة الميلاد، وكانت قد غادرت إيران منذ خمس سنوات. كانت ثالث أقرب صديقة لي وقد حققت الكثير في السنوات الخمس الأخيرة. هي غادرت في البداية كي تدرس علم الأنثروبولوجيا ثم بقيت هناك، وهذا ما يفعله الجميع عموماً: هم يغادرون {للدراسة} ولا يعودون مطلقاً. وجدتُ سيجارة أخيراً وطلبتُ من النادل الشاب في المقهى أن يجلب لنا منفضة. فنظر إلي بشيء من التردد وقال: {لا يُسمح للسيدات بالتدخين في المقهى. إذا اكتشف مكتب الأماكن العامة أننا نسمح بذلك، سيغلقون المكان}. ربما شدد المكتب تدابيره لبضعة أشهر، لكني ذكّرتُه بأنه عاد وخفف ضوابطه مؤخراً. ففكر قليلاً وغيّر رأيه. فأشار إلى طاولة بعيدة جداً عن المدخل وقال لي: {اجلسي هناك}.

انزلق وشاح شهرزاد عن رأسها. بالقرب منها، على عمود رفيع، وُضعت ملاحظة من إدارة المقهى إلى العملاء: {لضمان راحتكم الشخصية، وراحتنا أيضاً، نرجوكم أن تسيطروا على عواطفكم. لا تدخنوا (إنها عادة مضرّة أصلاً). ولتحرص النساء رجاءً على وضع الحجاب الإسلامي بالشكل المناسب». امتعضت شهرزاد وهي تقرأ الملاحظة. فضحكتُ وأشعلتُ سيجارتي. فبددت بيدها الدخان المتصاعد بيننا وسألتني: «هل تضحكين مجدداً؟ لا أفهم لماذا تبقين في هذا البلد. لماذا؟».

فأجبتُها: {في الحقيقة، سأرحل}. فلمعت عيناها عند سماع الخبر وانتظرت أن أستفيض بالكلام. تابعتُ قائلة: {سأذهب إلى لبنان... في مهمّة. سأجري مقابلة مع عائلة الإمام موسى الصدر، المؤسس الأصلي لحزب الله اللبناني. قبلتُ المهمة كي أكتب سيرته الذاتية. سأذهب إلى بيروت وإلى أقصى الجنوب تحديداً. هم سيصطحبونني مباشرةً إلى الحدود حيث يشتبك حزب الله وإسرائيل}.

رفعت شهرزاد وشاحها وشدّته على رأسها بإحكام: {حبيبه، ألا تخافين من شيء؟ أنت لا تخافين، أليس كذلك؟ لكن أنا أخاف. أنا أخاف عليك}.

ترجمة سالار عبده إلى الإنكليزية من الفارسية.

مخاوفي

 لدي مخاوفي الخاصة طبعاً. بل إني كنت خائفة طوال حياتي. كنت خائفة حين أخبرني شقيقي بأنني مضطرة إلى مغادرة طهران والعودة إلى مشهد بعد إنهاء دراستي. وكنت خائفة أثناء وجودي في وحدة التحقيق في مطار طهران. سألتني امرأة عن وجهتي وحين قلت لها إنني ذاهبة إلى باريس، نظرت إلي بعين الشك وأجابت: {باريس؟ ومن سيرافقك إلى باريس طوال أسبوعين؟}.

كنت خائفة حين شاهدتُ اسمي على لائحة المراسِلات اللواتي لا يستطعن العودة إلى الصحيفة ما لم يصححن شكل حجابهنّ {غير اللائق}. كنت خائفة في عام 2009 حين شاهدتُ جندياً يضرب المتظاهرين عشوائياً بهراوته في ميدان هفت تير. وقد شعرتُ بخوف أكبر حين التفت إليّ فجأةً وصرخ في وجهي: {إلى ماذا تحدقين؟}. كنت خائفة في بلدة مارون الراس اللبنانية حين شاهدتُ بعض الأبقار التي ترعى بهدوء على الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة فأخبرني الدليل الذي كان يرافقني: {إسرائيل تقع هناك. نحن نقف على الحدود}. نعم، لطالما كنت خائفة لكنني مضيتُ قدماً. ولطالما حاولتُ قمع إحباطي الضمني من أبناء وطني الذين جعلوا من أوروبا وكندا والولايات المتحدة موطناً لهم، لكنهم يعمدون، عند عودتهم إلى طهران لتمضية العطلة، إلى معاتبة الأشخاص الذين يقررون مثلي البقاء في البلد.

اخترتُ المسار الأصعب، أي عدم الهرب إلى عالم آخر حين تزداد الحياة صعوبة. يعني ذلك البقاء في بلدنا واستيعاب خطابه، حتى لو أُجبرنا من وقت لآخر على الخضوع للاستجواب لدى القوات المسلحة في قسم الطبوغرافيا التابع لجمهورية إيران الإسلامية. يعني المسار الأصعب العمل كمراسِلة من هنا (بدل نقل أخبار طهران من لندن أو واشنطن). ويعني ذلك المسار التعرف عن كثب على أزقة طهران الخلفية والمدمنين الكثيرين فيها، وزحمة سيرها الخانقة، وتلوثها الذي لا يُطاق،  ومظاهر فسادها، وإهاناتها اليومية.

سيدة نفسي

حين يسألني أصدقائي المغتربون لماذا لا أغادر إيران، أكذب وأخبرهم بأنني لا أتحلى بالصبر الكافي كي أتحدث بلغة أخرى غير الفارسية.

لهذه الأسباب كلها، أشعر بأنني أستحق الاحترام وليس الشفقة لأن عملي في مجال الصحافة (بل الصحافة في إيران تحديداً) له عواقب خاصة. أنا أبقى هنا لأنني سيدة نفسي، كما أنني سيّد نفسي أيضاً، مثلما كانت تكرر والدتي. أنا مضطرة إلى خوض منافسة شرسة مع الرجال في إيران بصفتي امرأة عازبة. أنا مضطرة إلى السهر أحياناً حتى الحادية عشرة مساءً في مكتب الأخبار لإنهاء مهامي ضمن مهلة محددة. وأنا في طريقي إلى المنزل في وقت متأخر من تلك الليالي، أنا مضطرة إلى المجازفة بأن يلاحقني أحد ويكلمني لأن المرأة يجب ألا تخرج وحدها في هذا الوقت المتأخر. وعندما أزور مكتب عقارات مثلاً لاستئجار شقة، يتغير موقف الوكيل فوراً حين يكتشف أنني جئت وحدي. كما أنني أتلقى عروضاً متنوعة في تلك المناسبات (عشيقة، زوجة موقتة، زوجة ثانية)، وحين أرفض بكل تهذيب، يتحول الأسلوب «اللطيف» فجأةً إلى أسلوب عدائي مباشر. وعلى الجانب الآخر من هذا الانقسام الاجتماعي، أجد نفسي مضطرة أيضاً إلى تحمّل اللوم من محيطي الخاص لأنني قررت بكل بساطة البقاء وخوض هذه المعركة. إنها معركة فعلية! إذا لم تبق نساء مثلي فلن يتغير شيء مطلقاً.

أنا لا أذكر هذه المعلومات أمام جميع الأصدقاء الذين يمضون العطلة في إيران أو هؤلاء {الكتّاب} الذين يقومون بجولتهم الكبرى في البلد قبل أن يكتبوا مذكراتهم بشأننا نحن {التعساء} هنا. هذا هو الموقف العام لأنها ليست معركتهم وليست مشكلتهم. حين يسألني أصدقائي المغتربون لماذا لا أغادر إيران، أكذب وأخبرهم بأنني لا أتحلى بالصبر الكافي كي أتحدث بلغة أخرى غير الفارسية. سمعتُ ذلك من أحد أساتذتي منذ فترة طويلة، واعتبرتُه حينها الجواب المثالي. لماذا؟ لأنه جواب حيادي وهو لا يجبر أحداً على مقاربة الرد بحسب جنسه.

سالار عبده

وُلد سالار عبده في إيران وهو يقسم وقته بين طهران ومدينة نيويورك حيث يشارك في إدارة «برنامج الكتابة الإبداعية» في كلية «سيتي كوليدج» في نيويورك. هو مؤلف روايات مثل «لعبة الشاعر» (The Poet Game) والأفيون (Opium)، وأحدث عمل له {طهران في الشفق} (Tehran at Twilight). ظهرت مقالاته وقصصه القصيرة في منشورات عدة، منها {نيويورك تايمز}، {بومب}، {كالالو}، {غيرنيكا}، و}بي بي سي}. هو فائز بجوائز من {أكاديمية نيويورك للأفلام} و}الصندوق الوطني للفنون}. كما أنه محرر ومترجم للمختارات الأدبية {طهران نوار} (Tehran Noir).