فاجعة باريس وغدر الذئاب الغادرة

نشر في 12-01-2015
آخر تحديث 12-01-2015 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري "المجرمون الذين نفذوا هجمات باريس لا ينتمون إلى الإسلام، ونحن في حرب على الإرهاب وليس ضد أي ديانة". بهذة الكلمات خاطب الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند شعبه، حاثاً على التمسك بـ"الوحدة الوطنية" غداة الهجوم الإرهابي على مقر المجلة الفرنسية الساخرة "شارلي إيبدو" من ٣ إرهابيين مسلحين محترفين، قاموا بتصفية مجلس تحرير المجلة ورئيس تحريرها، إذ فاجؤوهم في اجتماعهم الأسبوعي وقتلوهم بدم بارد، وهم يرددون شعارات إسلامية، كما قتلوا الشرطيين الحارسين، أحدهما مسلم، وفروا إلى شمال شرق باريس واتخذوا رهائن مدنيين يحتمون ويفاوضون بهم.

 استنفرت السلطات الفرنسية كل إمكاناتها لتعزيز الأمن وملاحقة الجناة واعتقالهم، وعاشت باريس يوماً مرعباً لم تعشه من قبل، شلت فيه الحياة اليومية الصاخبة، وحبس الفرنسيون أنفاسهم وهم يشاهدون وقائع المطاردة والمحاصرة، وشاركهم العالم بقلق عبر الفضائيات التي نقلت المشاهد الحية أولاً بأول، وكأنهم يشاهدون فيلما من أفلام الأكشن الأميركي، لتنتهي بتصفية الإرهابيين الثلاثة الذين رفضوا الاستسلام، وتنفس الفرنسيون والعالم الصعداء وسط توالي الإدانات العربية والإسلامية والدولية.

من هؤلاء الإرهابيون؟ ولماذا قاموا بفعلتهم؟ وما هدفهم؟ ولماذا فرنسا بالذات؟ وما التداعيات والنتائج المترتبة على "١١سبتمبر الفرنسي"؟

هذه التساؤلات وغيرها سينشغل بها المحللون والكتّاب والسياسيون والأمنيون وغيرهم إلى فترة غير قصيرة مثلما انشغلوا وما زالوا بتداعيات ٩/١١ الأميركي:

 أولا: الأشقياء الثلاثة هم جزء من تنظيم أكبر "نائم"، هم شبان مولودون في فرنسا، مأزومون، يعانون ضياع الهوية، يرون في "العنف الثوري" طريقا للخلاص، عندهم القابلية لاعتناق أيديولوجية القاعدة العدمية القائمة على "الكراهية"، كراهية الحياة والأحياء، والتضحية بالذات في سبيل ما يرونه أسمى وأعلى، فالشقيقان شريف وسعيد (٣٢، ٣٤ سنة) من أصول عربية، ولدا يتميين، وربتهما دور الرعاية الفرنسية، فانغمسا في حياة اللهو الباريسية ثم انخرطا في أعمال إجرامية وأودعا السجن، وعاشا حياة الضياع والكراهية، فسهل على دعاة الموت اصطيادهما وتجنيدهما، وهذه جناية التربية غير السوية، كما نبهنا إليها مراراً وتكراراً، لأنها لا تحصن الناشئة من الأفكار العدمية.

 والعجب أنهما، مع الثالث المنحدر من أصول إفريقية والمعروف بشدة الإجرام، كانوا جميعاً تحت أعين المراقبة الأمنية، فكيف تمكنوا من استغفالها والقيام بفعلتهم؟! هذا تساءل فيه جهتان: الجهة الأمنية، والجهة التشريعية التي لم تبلور قانوناً يواكب هذا الضرب من الإرهاب المسمى بـ"الذئاب المنفردة"، ولعل في اجتماع وزراء الداخلية الأوروبية مع حليفهم الأميركي ما يعين على صدور مثل هذا القانون بالإفادة من الأميركيين الذين اكتسبوا خبرة طويلة مع كل أشكال وألوان الإرهاب المعولم وخبثه.

 إن آفة التشريعات العقابية الغربية أنها تدلل السفاحين كثيراً باسم حماية حقوق الإنسان، والدليل ما حصل مع سفاح أوسلو الذي ارتكب مجزرة أودت بـ٦٧ نرويجياً بريئاً، فهي فضلاً عن أنها لا تعدم أعتى السفاحين مهما بلغت جرائمه الوحشية وإفساده في الأرض، فإن فيها ثغرات كثيرة يستغلها المجرمون ومحاموهم الحيالون.

ثانيا: زعموا أنهم يثأرون للنبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، ونبينا الكريم أعلى وأسمى أن يثأر باسمه أو له أمثال هؤلاء المجرمين، فالله سبحانه وتعالى ناصره أبداً إلى يوم الدين، قديماً من إساءات قومه وحديثاً من بذاءات أعدائه، كذبوا، أين هؤلاء من تعاليم قرآننا "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ"؟ أين هم من قوله تعالى "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"؟

ما نصروا الرسول حقاً بل أساؤوا وفجروا وبالغوا في الفجور، وإن نصرة الرسول الحقيقية في تمثل سيرته وسلوكياته صلى الله عليه وسلم، نصرة الرسول الحقيقية في القطيعة المعرفية مع فكر التطرف والكراهية الذي أنتج أمثال بن لادن والظواهري والزرقاوي، نصرة الرسول تكون في ردم الينابيع المسمومة التي ارتوى فيها هؤلاء الذين يشوهون صورة الجهاد ويسيئون إلى الرسول، هؤلاء ما نصروا الرسول أبدا، ثأروا لنفسياتهم الضائعة، ونفسوا عن كراهيتهم العميقة.

ثالثاً: أهداف هؤلاء والقاعدة و"داعش" من ورائهم الضغط على القيادة الفرنسية لتغيير استراتيجيتها في محاربة الإرهاب في مالي وتشاد وليبيا وسورية والعراق، خصوصا أن فرنسا بدأت تصعد مؤخراً في محاربة الإرهابيين وأصبحت "رأس حربة" فاعلة ضد التنظيمات، لدرجة أن الإرهابيين عامة ينظرون إلى فرنسا اليوم كأكبر أعدائهم، ويعادونها بأشد من معاداتهم لأميركا، إضافة إلى أنهم يرونها "أم العلمانية والإلحاد"، وتشن حرباً ثقافية "علمانية متوحشة" ضد المسلمين، فهم يرونهاعدواً مزدوجاً: عسكريا وثقافيا، ولكن هل بلغت السذاجة بهؤلاء أن يتصوروا أن فرنسا ستفرط في مصالحها بهذا العمل الإرهابي؟!

رابعاً: أما التداعيات السياسية والأمنية والاجتماعية والنفسية المترتبة، فأتصورها اليوم لا تشابه ما قبله، هي اليوم كبيرة وعديدة، أول ضحاياها المسلمون في فرنسا خاصة وأوروبا عامة، صحيح أن القيادات السياسية والحكومات الأوروبية حريصة على حماية الجاليات الإسلامية من كل أذى، وعلى المساجد والمراكز، وعلى تحقيق الوحدة الوطنية وتماسك مكونات المجتمع؛ ولذلك دعت إلى مظاهرات تجسد هذه الوحدة والتماسك وتقطع الطريق على التصادم والصراع (اليمين الأوروبي المتطرف)، إلا أن النظرة المجتمعية لشعوب أوروبا عامة ستكون مختلفة للإسلام والمسلمين.

 فالصور التي تنقلها الفضائيات لمشاهد القتل وقطع الرؤوس والتفجيرات وما يفعله المسلمون بأنفسهم من قتل، هي التي تبقى وتتغلب على اعتبارات المنطق وطروحات العقلاء والمعتدلين. (اليمين المتطرف) بالمرصاد وهو يستثمر مثل هذه الأحداث (سياسياً) ويركب موجة الخوف والفزع من المسلمين والأجانب (إسلاموفوبيا)، سيستغل هؤلاء ما حصل أفضل استغلال، وستتشدد أوروبا في إجراءاتها الأمنية نحو تضييق باب الهجرة بشكل أكبر وتقييد بعض الحريات، والتشدد في منح فيز الدخول ومحاربة الهجرة غير المشروعة، والتي تودي بالآلاف سنويا غرقا.

 إن أوروبا أصبحت اليوم مستهدفة من ذئاب منفردة أصبحت قطعانا متوحشة، لأنها تركت ساحتها لدعاة التحريض الذين زرعوا الكراهية في أرضها، وسمموا عقول بعض أبناء الجاليات الإسلامية لديها ونفوسهم، هؤلاء هم الذئاب الشرسة التي تستهدفها، ومن يربِّ الذئاب فلا يلومنّ إلا نفسه.

* كاتب قطري

back to top