تصريحات وزير العدل المصري محفوظ صابر في لقاء متلفز، بأنه ليس من حق نجل "الزبال" عامل النظافة الوصول إلى الوظائف القضائية، والضجة التي أثارتها هذه التصريحات في الرأي العام، والمطالبة بإقالته وقيامه بالاعتذار عن هذه التصريحات بأنها زلة لسان، وهو اعتذار لم يكن كافيا لإسدال الستار على هذا الموضوع ، أدت بالوزير إلى تقديم استقالته وقبولها على الفور.

Ad

وقد أصبح هذا التصريح واستقالة الوزير حديثي الساعة في مصر وغيرها من البلاد العربية، واحتلا برامح القضائيات والإذاعات والتغريدات على "تويتر"، وهو ما ألزمني أن أتناول الموضوع من جميع جوانبه، وقد أثار هذا الحراك السياسي والاجتماعي النقاط التالية:

ثقافه عامة راسخة

وبقدر ما صدمني هذا التصريح لصدوره في هذا التوقيت، ومن وزير يفترض فيه أن يعرف عواقب مثل هذا التصريح، بقدر ما احترمت في هذا الرجل أنه كان صادقا مع نفسه في هذا التصريح، ولم يكن الأمر زلة لسان بل كان تعبيرا عن ثقافة عامة سائدة بالنسبة إلى التعيين في بعض الوظائف العامة، مثل السلك السياسي والدبلوماسي والالتحاق بالكليات العسكرية وكلية الشرطة، وليس قصرا على الوظائف القضائية.

فهي ثقافة عامة ترسخت لدى شيوخ القضاة، ومن بين هؤلاء المستشار ممتاز نصار رئيس محكمة النقض ورئيس نادي القضاة الأسبق الذي يقول في كتابه "معركة العدالة في مصر" بضرورة إعادة النظر في أساس الترشيح لوظائف النيابة العامة والقضاء، وألا يُكتفى بترتيب النجاح بل يكون التعيين بعد تحريات دقيقة عن النشأة والسلوك الاجتماعي. (ط 1974- دار الشروق ص 142).

ثقافة الأمن السياسي

بعد 23 يوليو

ولكن هذه الثقافة قد تغير مفهومها بعد ثورة 23 يوليو إلى مفهوم جديد هو الأمن السياسي، فبقدر ما حرص نظام الحكم بعد ثورة 23 يوليو على تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص في تولي الوظائف العامة، بقدر ما كان هاجس الخوف على النظام وحمايته يتصدر المشهد السياسي، فأنشئت لأول مرة مكاتب الأمن في كل الوزارات، والتي كانت تستطلع رأي المباحث العامة في كل من يرشح للوظيفة العامة، وهو ما انطبق كذلك على شغل الوظائف القضائية.

وهو ما قننته محكمة القضاء الإداري في مصر في حكم أصدرته المحكمة الإدارية العليا التي قصرت التحريات التي يتم إجراؤها على المتقدمين للترشح للوظائف العامة على ما يتعلق منه بأمن الدولة (الحكم الصادر بجلسة 3/ 3/ 1962 في القضية رقم 1285 لسنة 7 ق).

بل ذهبت المحكمة الإدارية العليا في حكمها سالف الذكر إلى أبعد من ذلك حين أعطت الإدارة الحق في سحب قرار التعيين، إذا ثبت من التحريات قيام مانع متصل بأمن الدولة، لأن الصلاحية للتعيين في الوظائف العامة هي شرط ابتداء واستمرار، وأن كل تعيين في الوظائف العامة دون أخذ رأي المباحث العامة يكون تعيينا مبتسراً وغير باتّ، ويكون معلقاً على عدم قيام مانع يتصل بأمن الدولة.

وقد انتقدت هنا الحكم في مؤلفي" نظام العاملين قضاء وفتوى الطبعة الأولى– 1964ص 104) والذي قلت فيه "إن التحريات التي تجريها جهات الأمن لا ترقى- في رأينا– إلى أن تكون مانعاً من تولي الوظائف العامة، بل هي عنصر من عناصر تقدير حسن السيرة والسمعة)، باعتبار ذلك من ملاءمات اتخاذ القرار.

تلاحم الثقافتين

ولم تتلاشَ تماماً- أمام مفهوم الأمن السياسي- ثقافة الأصول والفروع والعائلة في التعيين في الوظائف القضائية، في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أو عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، إلا أن مفهوم العائلة أصبح أقل حدة وأكثر تسامحا، فلم يعد يطبق إلا في أضيق الحدود، عندما يكون أحد أفراد العائلة قد أدين في جريمة مخلة بالشرف والأمانة مثلا، وأحياناً وفي أضيق الحدود عندما يكون عمل الأب أو الأم لا يتفق والهيبة والتوقير اللذين يجب توفيرهما للقاضي على المنصة والقيود المفروضة عليه، والتي لا يجوز له أن يتحلل منها وإلا كان غير صالح لنظر الدعوى بما يعرض أحكامه للبطلان، وبما يعرضه للرد من الخصوم، إذا كان بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل، أو كان قد اعتاد مؤاكلة أحد الخصوم أو مساكنته، وهي مجرد أمثلة، لما يتعرض له القاضي أثناء عمله من مآخذ، لا يؤخذ بها غيره من شاغلي الوظائف العامة.

إلا أن وظيفة أو عمل الأب أو الأم لم تعد تتصدر ساحة القضاء بعد أن أزاحتها ظاهرة التوريث في القضاء في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، والتي أفرزتها ثقافة الأصول والفروع والعائلة، التي كانت سائدة قبل ذلك.

القضاء والسياسة

ولكن هذه الضوابط أو القواعد في اختيار القضاة، لم يكن يعلن عنها على صفحات الصحف وفي قنوات التلفاز، بل كان يتم تطبيقها باستحياء شديد، دون تسبيب أو إعلان، وهو الحرج الذي أوقع الوزير نفسه فيه بهذا التصريح، الذي أشارك الكثيرين في العتب على الوزير التورط في هذا التصريح.

ومع ذلك فإنني احترمت في الوزير القاضي أنه لم يكذب أو  يرائي أو ينافق في هذا التصريح، فليست هذه صفات القاضي، وإن كان رجال السياسة يرونها إحدى وسائل الدهاء السياسي، التي يمكن أن يحتاجها السياسي للخروج من المأزق أو المؤامرات التي تحاك له من خصومه السياسيين.

ولكن هذا التصريح قد كشف النقاب عن الخطأ الكبير الذي تقع فيه الحكومات المتعاقبة في مصر في كل تشكيل حكومي، عندما يصر رجال القضاء على أن يكون اختيار وزير العدل من بينهم، بل بالتحديد من رجال القضاء العادي الذين يكونون أغلبية أعضاء الهيئات القضائية.

ذلك أن ما تتطلبه الوظيفة القضائية في شغلها من صفات أخلاقية ومواهب وقدرات علمية وعقلية ونفسية تختلف عن متطلبات المنصب السياسي، وقد صدق السياسي القدير ونقيب المحامين الأسبق الراحل مكرم عبيد عندما قال مقولته المشهورة: السياسة والعدالة ضدان لا يجتمعان، وإذا اجتمعتا لا تتمازجان، والواقع أنهما مختلفتان في الطبيعة والوسيلة والغرض، فالعدالة من روح الله، والسياسة من صنع الإنسان، والعدالة تطلب حقا، والسياسة تبغي مصلحة، غير أن أخطر ما في السياسة أنها ترى من حسنها أن تخلع على المصلحة رداء الحق.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.