كيف ننظم الإعلام ذاتياً؟

نشر في 21-09-2014 | 00:01
آخر تحديث 21-09-2014 | 00:01
 ياسر عبد العزيز في الوقت الذي تزدهر فيه صناعة الإعلام في بلادنا، وتزيد الاستثمارات في إنشاء وسائلها المختلفة، ويتعاظم تأثيرها في تكوين الرأي العام وتوجيهه، ويحظى الإعلاميون البارزون بأجور ضخمة، تتجاوز ما يحصل عليه لاعبو كرة القدم ونجوم السينما، تتزايد النقمة على الأداء الإعلامي، ويكيل الجميع للإعلاميين الانتقادات.

يشاهد الجمهور وسائل الإعلام المختلفة بكثافة، ويشتري الصحف، ويغري وكالات الإعلان بتمويل الفضائيات، ويتفاعل مع وسائط التواصل الاجتماعي باطراد، لكنه يكيل الانتقادات الحادة للإعلام والإعلاميين، ويعتبرهم مسؤولين عن كثير من جوانب العوار والخلل في حياتنا.

ينتقد السياسيون، والقادة، والبرلمانيون، وأقطاب المجتمع المدني، والأكاديميون، الأداء الإعلامي، ويحملونه المسؤولية عن الكثير من الارتباك والتردي الذي نشهده في حياتنا. علماء الدين أيضاً يعتبرون أن الإعلام لا يعمل على النحو الصحيح، ويرى بعضهم أنه يتجاوز القيم الدينية والأخلاقية، ويعمل على النيل منها والإساءة إليها.

بعض الإعلاميين كذلك يعترف بالوضع السيئ الذي بات عليه الأداء الإعلامي في الكثير من البلدان العربية، ويتنصل هؤلاء من أنماط أداء متدنية، تسيء إلى المهنة وأصحابها والمجتمع في آن.

الجميع يبدو متفقاً على أن الإعلام في معظم بلداننا العربية يفقد جوانب أساسية من وظائفه وأدواره، وأنه لم يعد قادراً على أن يفي بالاستحقاقات الملقاة على عاتقه، وأن إصلاحه، أو "تطهيره"، أو تطويره ضرورة لا غنى عنها.

معظم الحكومات العربية لا تظهر الرضا عن الأداء الإعلامي، وبعضها يعتبر الإعلام حجر عثرة في طريق التنمية والتغيير الاجتماعي الإيجابي، والبعض الآخر يصف أنماطاً في الأداء الإعلامي بـ"الانحراف" وأحياناً بـ"العمالة والخيانة". تحمل صناعة الإعلام في الكثير من بلداننا العربية ظلالاً قاتمة، وتتعرض للكثير من الاتهامات، وتحاول بعض الأنظمة السياسية فرض سيطرتها عليها، وتطويع أدائها، أو قمعها، وشل حركتها بمنظومات القوانين المكبلة، أو بالتدخلات الخشنة التي تستهدف قمع الحريات وتكميم الأصوات.

كيف يمكن حل هذه المعضلة؟

يجيب سياسيون وبرلمانيون وبعض النخب عن السؤال السابق بالقول: "ليس هناك حل سوى إصدار ميثاق شرف والالتزام بتطبيقه، فتتحسن الممارسة، ويقوم الإعلام بدوره، وتصان المصلحة العامة، ولا يتم انتهاك حقوق الآخرين".

إن هذه الإجابة خاطئة، وفي أفضل الأحوال قاصرة، فمواثيق الشرف، رغم أهميتها، لا يمكن أن تكون الحل الناجع لأزمات الإعلام المتكررة في الكثير من الدول العربية، وليست هذه المواثيق سوى التزامات طوعية، بقيم أخلاقية ومهنية، تبديها الجماعة الإعلامية في أي مجتمع، مثل تلك التي تعلن الالتزام بها جماعات الأطباء أو المحامين أو المحاسبين، لكنها لن تكون قادرة وحدها على النهوض بأعباء إخضاع الأداء الإعلامي للتقييم، ومحاسبة المتجاوزين، بشكل يضمن الحد من التجاوزات.

لقد استطاعت المجتمعات الأكثر رشداً وتنظيماً في أوروبا الغربية والولايات المتحدة بل بعض دول العالم الثالث في آسيا وأميركا اللاتينية أن تطور حلاً أكثر نجاعة وقابلية للتطبيق وتحقيق النتائج الملموسة... الحل يكمن ببساطة في تعزيز آليات التنظيم الذاتي لصناعة الإعلام.

تتضمن آليات التنظيم الذاتي لصناعة الإعلام، وفق التجارب المتطورة والناضجة في دول العالم الغربي تحديداً ثمانية عناصر مهمة:

 أولها يتعلق بمخرجات التعليم الجامعي. فقد أثبتت الأبحاث أن تحسن مخرجات التعليم الجامعي شرط أساسي في رفد المجال الإعلامي بمهنيين على درجة مناسبة من الوعي والثقافة من بين الخريجين، ولذلك يمكن توقع تدني مستوى قطاع مؤثر من العاملين في تلك الصناعة في حال كان التعليم الجامعي متراجعاً ولا يتم وفق المعايير المناسبة.

العنصر الثاني ضمن آليات التنظيم الذاتي لصناعة الإعلام يتعلق بما يمكن تسميته بـ"الفريضة الغائبة" في هذا القطاع... أي "سياسات التوظيف" Job Policy، وهي مجموعة من المعايير التي تنظم عمليات التوظيف في وسائل الإعلام.

وتبدأ سياسات التوظيف المعيارية عادة عملها من نقطة "تشخيص الاحتياجات الوظيفية" في كل مؤسسة، بمعنى تحديد حاجات الأقسام والوحدات من العاملين، عوضاً عن التوظيف العشوائي أو الاجتماعي الذي يجري في مؤسسات إعلامية عديدة، خصوصاً المملوك منها للدولة.

وبعد تحديد الاحتياجات الوظيفية، يتم النص على الوصف الوظيفي لكل وظيفة مطلوبة، كما يتم تحديد حزمة المزايا المرصودة لها، في مقابل تحديد صارم للمؤهلات والقدرات والخبرات والمهارات التي يجب توافرها فيمن سيتم اختياره لشغل الوظيفة. يتلو ذلك بالطبع، الإعلان الشفاف عن الوظيفة في المجال العام، بحيث تتاح الفرص لكل الراغبين والقادرين للتقدم للاختبار بشأنها، وبعد الاختبارات الشفافة والمعيارية يتم اختيار أفضل العناصر، التي يمكنها أن تنهض بأعباء الوظيفة المعلن عنها.

إن سياسات التوظيف أمر حيوي وضروري ضمن عناصر التنظيم الذاتي لصناعة الإعلام، لأنها لا تضمن فقط العدالة والشفافية في منح الوظائف، ولا يقتصر دورها على الحد من التوظيف العشوائي واختيار العناصر غير المناسبة، لكنها أيضاً تزيد النزعة التنافسية لدى العاملين في القطاع، كما أنها تسفر عادة عن اختيار أفضل العناصر المتقدمة، بشكل ينعكس على جودة العمل، ويحسن الأداء إلى أقصى درجة ممكنة.

العنصر الثالث في التنظيم الذاتي لصناعة الإعلام يتعلق بالتدريب المستمر، فمعظم وسائل الإعلام الكبرى في العالم تنشئ وحدات تدريب مستديمة داخلها، بحيث تضمن إخضاع كل العناصر العاملة بالوسيلة لعمليات تدريب مستمرة بهدف رفع المستوى وتعزيز المهارات والتعرف إلى الجديد في الصناعة.

أما العنصر الرابع في منظومة التنظيم الذاتي فيتعلق بالأدلة التحريرية التي تمتلكها كل مؤسسة وهي مجموعة من المعايير والأخلاقيات والقيم التي تلتزم المؤسسة بتبنيها في إنتاجها الإعلامي بشكل يحقق لها التنافسية والالتزام المهني والقيمي.

تتكون تلك الأدلة من "أدلة الإرشادات التحريرية" التي تتناول التوجيهات الخاصة بعمليات التحرير على المستوى المهني والأخلاقي، و"أدلة الأسلوب" التي تتعلق بالشكل واستخدامات اللغة، و"أدلة السياسات والإجراءات" التي تتصل بمسارات العمل وتدفقه وتنظيمه، كما أن بعض الوسائل تنتج أدلة نوعية، أي إرشادات مكتوبة تتعلق بموضوعات تغطية معينة؛ مثل النزاعات أو الحروب أو العمليات الانتخابية.

إن إصدار الأدلة التحريرية وإلزام العاملين بتطبيقها يعد إحدى الوسائل الحيوية لضمان تحسين الأداء في المؤسسة الإعلامية وتفادي الأخطاء والانتهاكات.

"الإمبودسمان" هو العنصر الخامس في عناصر منظومة التنظيم الذاتي لصناعة الإعلام؛ وهو عبارة عن صحافي أو إعلامي قدير يمتلك مكانة مهنية وأخلاقية غير قابلة للطعن، كما يحظى بخبرات إعلامية واسعة وعميقة، ويتقن المهارات الصحافية والإعلامية، ويعمل كـ"أمين شكاوى ومظالم" لدى القراء والجمهور، رغم أنه يتقاضى راتبه من المؤسسة الإعلامية.

يقوم "الإمبودسمان" بمتابعة أداء المؤسسة التي يعمل بها، ويعين الأخطاء المهنية والأخلاقية التي تقع فيها الوسيلة أو العاملون فيها من الصحافيين والإعلاميين، ويصارح الجمهور بها عبر مساحة مخصصة له، كما أنه يتلقى الشكاوى من الجمهور في حق أنماط الأداء المثيرة للجدل، ويقوم بتحقيقها، ويعتذر أحياناً عن الأخطاء التي ترتكبها الصحيفة علناً، ويطلب من مرتكبيها التعهد بعدم تكرارها.

العنصر السادس من عناصر التنظيم الذاتي لصناعة الإعلام هو النقابات الإعلامية، التي تقوم بدورها بإنشاء آليات تأديب للمتجاوزين من أعضائها، وهي الآليات التي يمكن من خلالها توقيع اللوم أو الغرامات على المخطئين من الصحافيين أو إجبارهم على الاعتذار العلني عن أخطائهم.

أما العنصر السابع فيتعلق بمنظمات المجتمع المدني العاملة في مجال حرية الرأي والتعبير أو حماية حقوق الجمهور، وهي منظمات يمكنها أيضاً أن تخضع الأداء الإعلامي للتقييم، ويمكنها كذلك أن تحد من تجاوزاته عبر إصدار التقارير التي تشير إلى الأخطاء والانتهاكات، وإبراز الممارسات الجيدة ومكافأتها معنوياً.

أما آخر عناصر التنظيم الذاتي فهو "مجالس الصحافة"، وهي هيئات مستقلة غير هادفة للربح، تقوم الوسائل الإعلامية والصحافية بتشكيلها من عناصر تتميز بامتلاك الخبرة والإلمام والسمعة الحسنة، وتفوضها بتحقيق شكاوى الجمهور من الأداء الصحافي، وتمنحها صلاحيات توقيع عقوبات مالية أو معنوية.

إن التعويل على مواثيق الشرف فقط لضبط الأداء الإعلامي هو خطأ كبير، كما أن ترك هذا الأداء بلا ضابط أو رابط خطأ كذلك، والحل يكمن في تطوير منظومات "التنظيم الذاتي" التي تتكون من عناصر متعددة ومتشابكة، لكنها بالتأكيد قادرة على الحد من تجاوزات الإعلام ورفع السيوف المصلتة على رقاب العاملين فيه.

* كاتب مصري

back to top