تشكل الولايات المتحدة جزءاً كبيراً من المنطقة المعتدلة في أميركا الشمالية، حيث يحدها محيطان من الشرق والغرب والدائرة القطبية الكندية إلى الشمال، وتمنح هذه الهبات الجغرافية الأميركيين مقداراً كبيراً من الأمن والعزلة عن الصراعات الدموية التي تهيمن على الكرة الأرضية.
رغم ذلك، لا يمكننا أن ننكر أن التكنولوجيا قلصت المسافات الجغرافية، فبات عالم السياسة الجغرافية أصغر من أي وقت مضى، وتُعتبر اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر على الأراضي الأميركية، التي نشأ الدافع وراءها في التلال الأفغانية البعيدة، المثال الأبرز على ذلك، أضف إلى ذلك عالم الأسواق المالية العالمية الجديد، حيث تؤثر حركة الأسهم في شرق آسيا وأوروبا في الحال في وول ستريت.وكما أظهرت عناوين الأخبار أخيراً، فإن انتشار مرض في دولة صغيرة بغرب إفريقيا جعلها فجأة بالغة الأهمية من الناحية الجيو- سياسية، وباختصار، صارت الولايات المتحدة أكثر ضعفاً من أي وقت مضى تجاه الأحداث الخارجية وأكثر تأثراً بها.ينطبق هذا خصوصاً على النخبة التي تطبق السياسة الخارجية وتساهم في ضبطها، حيث كثيرا ما لعبت النخب دوراً في الأنظمة الديمقراطية وغير الديمقراطية على حد سواء، صحيح أن الجماهير تصوغ البيئة السياسية التي تُصنع فيها السياسة، لكننا نحتاج إلى النخبة لكي نعطي هذه البيئة شكلاً وجوهراً، ومع تقلص الجغرافيا بسبب التكنولوجيا، باتت نخبة السياسة الخارجية الأميركية أكثر انفتاحاً من ذي قبل، أي أنها تتمتع بعلاقات مهنية أوسع من أي وقت مضى مع النخب الأخرى حول العالم، ما انعكس بعمق على قيم النخبة الأميركية وطريقة تفكيرها.لم تنشأ هذه النخبة المنفتحة في فراغ في السياسة الخارجية، فقد أرغمت الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، التي تلتها ودامت عقوداً، الولايات المتحدة على تحمل عبء شبكة مدعمة تعود إلى التزاماتها وإلى التاريخ بحد ذاته، شبكة فرضت على الولايات المتحدة، وأوروبا، وآسيا مصيراً موحداً إلى حد ما لم يكن قائماً من قبل، ولعل البرهان الأبرز على ذلك التدخلات العسكرية في يوغوسلافيا السابقة في تسعينيات القرن الماضي، والتي تعود في جزء كبير منها إلى نخبة شعرت بالتزام كبير تجاه النظام الأوروبي، مع أن البعض كان بإمكانه أن يصر على أنه ما من مصالح أمنية أميركية واضحة كانت مهددة في البلقان.بلد طبيعيبالإضافة إلى ذلك، ما من مفر من هذا كله، ففي خريف عام 1990، نشر المفكر المحافظ الراحل جين كيركباتريك مقالاً في مجلة The National Interest أشار فيه إلى أن الولايات المتحدة تملك مع انتهاء الحرب الباردة فرصة لتعود "بلداً طبيعياً"، أي بلداً يُعرَّف بانشغالاته الداخلية لا سياسته الخارجية، غير أن المشكلة تكمن في أن هذا المقال كُتب على الأرجح بعد سقوط جدار برلين وقبل اجتياح صدام حسين الكويت. فعندما أقدم صدام على غزو الكويت، محدثاً خللاً في الوضع القائم في الشرق الأوسط، كانت الولايات المتحدة وحدها قادرة على عكس ما قام به. ولم تتمتع بهذه القدرة إلا بفضل الترسانة العسكرية التي بنتها خلال الحرب الباردة، وبكلمات أخرى، فإن أميركا بعد الدفاع عن العالم الحر طوال نصف قرن تقريباً لم يكن هناك مجال للتراجع والعودة إلى وضعها الطبيعي.بالإضافة إلى ذلك، تعلو من حين إلى آخر صيحات للتدخل الإنساني توَجَّه مباشرة إلى الولايات المتحدة، وهذا طبيعي نظراً إلى قوتها العسكرية التي تتمتع على الأقل بالقدرة على تصحيح الأوضاع بطريقة تعجز عنها كل الدول الأخرى، وسواء أحببنا ذلك أو لا، نحن مرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالعالم.رغم ذلك، يبقى هذا الانجذاب الكبير إلى قارة لا يمكنك أن تدرك مدى اتساعها إلا بالتنقل فيها بالسيارة، كما فعلت في مناسبات عدة، من الساحل إلى الآخر، داخل هذه القارة، مازال العالم بين المحيطين يبدو بعيداً لأن تطورات كثيرة تحدث داخل الولايات المتحدة وهي خاصة بالولايات المتحدة، تطورات تتطلب العمل والتفكير، نعم، باتت الولايات المتحدة، كما العالم، أصغر بفضل التكنولوجيا، لكن الولايات المتحدة أكثر اكتظاظاً بالسكان وأكثر تمدناً، ولذلك باتت أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، وفي المحصلة أصبحت مشاكل هذا البلد الخاصة تحتاج إلى انتباه أكثر إلحاحاً من قبل.عندما كان الانتقال بالسفن عبر المحيط الأطلسي يتطلب خمسة أيام، كانت السياسة الخارجية أبسط من زمن يستطيع فيه المرء اجتياز هذا المحيط في غضون ست ساعات بالطائرات النفاثة والتواصل مع أي مكان في العالم بطرفة عين بواسطة البريد الإلكتروني. في الماضي، كانت الولايات المتحدة تنعم بمقدار معين من العزلة الطبيعية، لذلك كان من المبرر أن تدخل الحرب العالمية الثانية في مرحلة متأخرة بحلول نهاية عام 1941، حين كان النازيون على أبواب موسكو، فحتى مطلع القرن العشرين، ساد الإجماع على أن الولايات المتحدة لا تتدخل في المسائل الخارجية إلا عندما تتطلب المصالح الكبرى ذلك، وسهُل في تلك الفترة تقبل فكرة أن الشر في أي مكان يهدد الأراضي الأميركية، مقارنة بالوقت الراهن.اختفى الإجماع اليوم، فثمة مَن ينبع سلوكهم من ضخامة هذه القارة البارزة، ومَن يريدون أن تحد الولايات المتحدة من تدخلها في الخارج، في المقابل، نرى مَن ينبع موقفهم من تفاعلات العولمة الواضحة، ومَن يريدون أن تزيد الولايات المتحدة تدخلها.خطر الشيوعية في هذا البلد اليوم نخبة منفتحة وشعب متمسك بعناصر قوية من القومية القديمة، وقد تعايشت هاتان القوتان خلال الحرب الباردة بسبب خطر عقائدي وإستراتيجي واضح انبثق من الحرب العالمية الثانية متخذاً شكل الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفياتي، لكن حدة المناظرة الراهنة بشأن السياسة الخارجية تُظهر اليوم أنه حتى الجهاد الإسلامي لا يُعتبر خطراً بالضخامة عينها، هذا إذا استثنينا اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر وقطع رأس الصحافيين.لا يعني ذلك بالضرورة أن السياسة الخارجية الأميركية جامدة ولا يمكنها التطور بفاعلية، فمن الممكن لمناظرة سليمة تُدور ضمن الحدود المقبولة أن تؤدي إلى مسار معتدل يعزز استمرار القيادة الأميركية في العالم، وقد قُدمت صيغة مبتكرة لتدوير الزوايا في هذا المجال في مقال نُشر في عدد يناير 2009 من مجلة Foreign Policy بعنوان "الحافة الأميركية" كتبته آن ماري سلوتر التي تبوأت لاحقاً منصب مدير التخطيط السياسي.وأشارت سلوتر إلى أن الولايات المتحدة لم تعد بالضرورة مهيمنة في هرمية عالم السياسة الجغرافية المضمحلة، إلا أنها لاتزال تستطيع (أو بالأحرى عليها ذلك) أن تكون "مركزاً" أو وسطاً لشبكة من علاقات القوة في العالم بأسره، وبهذه الصيغة، لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تفرض مشيئتها، غير أنها قد تكوّن مبدأ منظماً في القيادة العالمية عبر إطار الدولة التي تشكل الائتلافات للتعامل مع هذه المشكلة وتلك من خلال تأثير شبكاتها السياسية والاقتصادية المتنوعة.تشكل فكرة الولايات المتحدة في الوسط لا في المقدمة نقطة انطلاق جيدة لقرن أميركي آخر أكثر تنوعاً نظراً إلى التغييرات في الجغرافيا الناجمة عن التكنولوجيا، فنظراً إلى قوة الجغرافيا والتكنولوجيا المشتركة، قد تبدأ الولايات المتحدة بخسارة تميزها تدريجياً في عالم تختفي فيه الحدود شيئاً فشيئاً، بينما تصبح أقل تميزاً، ويكمن التحدي في التحكم في هذه العملية وإبطائها قدر الإمكان كي تبقى الولايات المتحدة في الوسط فترة طويلة.* (ستراتفور)
مقالات
واقع الولايات المتحدة الجيو- سياسي
11-12-2014