رسالة إلى حكماء فرنسا

نشر في 19-01-2015
آخر تحديث 19-01-2015 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري وصف الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي إياد مدني إعادة نشر الرسوم المسيئة بالحماقة والصفاقة والجهل؛ لأن حرية التعبير لا ينبغي أن تكون ذريعة للإساءة إلى معتقدات الآخرين، وأراه محقاً في وصفه، ويشاركه فيه أكثر من مليار و٦٠٠ ألف مسلم، بل كل عقلاء العالم وكل صاحب ضمير حر، إذ لا يمكن- كما قال بحق- لأي عاقل مهما كان مذهبه أو دينه أو قناعته، أن يرضى بأن تكون معتقداته محل سخرية، لذلك صرح بابا الفاتيكان "حرية التعبير لا تعطي الحق في إهانة معتقدات الآخرين" وهو تصريح منصف.

 وكانت المجلة الفرنسية الأسبوعية الساخرة أصدرت عدداً جديداً عقب الهجمات عليها، في (٥) ملايين نسخة مقارنة بـ(٦٠) ألف نسخة كانت تطبعها من قبل، ونفدت خلال ساعات، حيث اصطف الناس في صفوف طويلة لشرائها، كما نشرت بـ(٢٠) لغة أخرى، ورقياً ورقمياً، من بينها العربية، وتضمنت صفحة الغلاف رسماً كاريكاتيريا عبارة عن صورة شخص يحمل لافتة عليها عبارة "كلنا شارلي"، وفوقها عبارة "تم غفران كل شيء"، اعتبره المسلمون مسيئاً لمقام رسولهم- عليه الصلاة والسلام- وللإسلام واستفزازاً للمسلمين.

 من حقنا أن نتساءل:

١- ما المبررات المنطقية لإعادة نشر هذا الرسم، إذ لا يوجد أي منطق في إثارة مشاعر أكثر من مليار ونصف مليار مسلم؟!

٢- ما المصلحة السياسية أو الاقتصادية التي تعود على فرنسا وسياستها في المنطقة من نشر ما يستفز ويغضب مليارا ونصف المليار إنسان؟!

٣- ما الرسالة التي تريد المجلة إيصالها، هل تريد القول إن الإرهاب لم يحقق هدفه في إسكات المجلة؟

إذا كانت هذه الرسالة، فأتصور أن المجلة لم تحقق هدفها، بل حققت هدفاً مزدوجاً للإرهابيين:

أولاً: أكدت للمسلمين صدق مزاعم الإرهابيين من أن فرنسا تعادي الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام.

الثاني: حققت هدف الإرهابيين الأساسي وهو زرع الفتنة والانقسام الداخلي في المجتمع الفرنسي، وإثارة الكراهية للمسلمين، وتوظيفها لدفع مزيد من شباب الجالية الإسلامية في الغرب للالتحاق بـ"داعش" و"القاعدة"، وهو هدف مشترك بينهما رغم عدائهما لبعض، فأوروبا تعد خزانا لتزويدهما بالشباب المسلم المنحدر من أصول عربية والذي يعاني أزمة هوية.

٤- تأتي فعلة المجلة، مناقضة تماماً لتصريح الرئيس الفرنسي نفسه، غداة الهجمات، من أن فرنسا في حالة حرب ضد الإرهاب لا ضد الإسلام والمسلمين، كما تناقض سياسته في تحقيق "الوحدة الوطنية"، بل تمثل انتهاكاً للقيم الإنسانية ومبادئ التعايش السلمي، والتسامح والاعتدال والاحترام المتبادل بين الشعوب، كما قال بحق بيان وزارة الخارجية القطري.

٥- المسلمون تضامنوا مع الشعب الفرنسي وسار بعض قادتهم وممثليهم في المسيرة المليونية، وحكوماتهم نددت بالعمل الإرهابي، كما قامت مؤسساتهم الدينية الكبرى بإدانته واستنكاره، وكتابهم ومثقفوهم وإعلاميوهم تعاطفوا معهم، فهل من العدالة والإنصاف أن تستفز وتسيء إلى من وقف معك في شدتك؟!

٦- كيف يمكن تحقيق سياسة "إدماج" المسلمين المهاجرين في المجتمعات الغربية مع أجواء تأجيج الكراهية والغضب والتهكم على المعتقدات، وخصوصا أن المسلمين في فرنسا، أكبر جالية مسلمة في أوروبا (٦) ملايين من (٤٥) مليوناً في أوروبا كلها؟

٧- المدافعون عن المجلة، يقولون إن الحياة الأوروبية- فلسفة وثقافة وتشريعاً ونظاماً سياسياً وأسلوب معيشة- تقوم على تقديس "حرية الرأي والتعبير" ومن لا يعجبه ذلك فعليه الرحيل، حسناً السؤال هنا: هل "حرية الرأي والتعبير" تبرر "حرية الإساءة"؟! وهل تحل المشكلة برحيل المسلمين؟!

ماذا عن الإساءة إلى مليار ونصف مسلم؟! هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية: إذا كان الأوروبيون لا مقدس عندهم، وقد اعتادوا السخرية من رموزهم الدينية والتهكم من غير حرج، وكل ذلك باسم "حرية الرأي والتعبير" فهذا شأنهم، ونحن نحترم منهجهم، ولكن ماذا عن مقدسات الآخرين؟ أليس من حق الآخرين أن يطالبوا باحترامها؟

 ومن ناحية ثالثة: لماذا يبيح الأوروبيون لأنفسهم فرض رأيهم على الآخرين ومطالبتهم بالقبول وعدم الغضب؟!

المسلمون لا يريدون فرض رأيهم على الأوروبيين، يريدون فقط احترام مقدساتهم، انطلاقاً من مبادئ حقوق الإنسان وقواعد التعايش والتواصل الإنساني، ومقتضيات التعاون والمصالح المشتركة بين البشر وتحقيق الحوار الإيجابي بين أتباع الأديان المختلفة، فأيهما أصوب منطقاً وأكثر عدالة، المسلمون الذين يطالبون باحترام مقدساتهم أم الأوروبيون الذين يريدون فرض رأيهم؟!

٨- فرقت المحكمة الدستورية العليا الأميركية ١٩٩٢ بين "حرية رأي" تسبب "إساءة" فقط، و"حرية رأي" تسبب "إساءة" وأيضاً "عدم تسامح" و"نفوراً اجتماعياً" وتؤدي إلى "عنف وكراهية"، فأجازت "الأولى" حقاً دستورياً وحظرت "الثانية" لأنه لا منطق في إثارة الكراهية، فصار جزءا من التقاليد الدستورية الأميركية، وليت أوروبا تقتدي بها.

٩- نؤيد دعوة الأزهر الشريف لتجاهل هذه الرسوم وعدم القيام بأي رد فعل مسيء، التزاماً بقوله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين".

١٠- هذه رسالة ودية صادقة من كاتب متضامن مع الشعب الفرنسي دان الهجمات ولم يستدرك بـ"لكن" الخبيثة التي ينسف ما بعدها ما قبلها كما فعل البعض، ولم يبرر للإرهابيين بأن فرنسا "جنت بأيديها ما زرعت"، ولم يكن مع القائلين إن تضامننا مع فرنسا يجب أن يكون بتضامنها معنا، ولا كان من المشككين فيما حصل، بل دان قولا واحدا كما دان كل هذه التبريرات السقيمة.

 *كاتب قطري

back to top