ما الذي يفعله المبدع كي يصنع فيلماً جماهيرياً؟

Ad

أتصور أن المخرج إبراهيم البطوط في حيرة شديدة، بعدما خاض أكثر من مغامرة مثيرة قدم من خلالها باقة من الأفلام ذات السوية الرائعة، على صعيدي الفكر واللغة السينمائية؛ مثل: «إيثاكي» (2004)، «عين شمس» (2008)، «حاوي» (2010) و{الشتا اللي فات» (2012). لكنها لم تلق النجاح الجماهيري المطلوب، ووصفت بأنها «أفلام مهرجانات» تخاطب النخبة!

 مصير لا يُسعد المبدع الذي يهمه في المقام الأول قياس ردود فعل الجمهور، وحجم الإقبال على الفيلم، كمعيار رئيس لوصول رسالته، ونجاحه في تحقيق المتعة المنشودة، ولأجل هذا اتجه «البطوط»، مذ فيلمه «الشتا اللي فات»، إلى تغيير قناعاته، ورؤيته، وحرص على وضع الجمهور، بطوائفه كافة، في اعتباره، مثلما نظر بعين الاهتمام إلى شرائح عدة سقطت من حساباته في تجاربه السابقة، ثم واصل نهج «المصالحة» في فيلمه الأخير «القط»، الذي لا يمكن القول إنه، مع «الشتا اللي فات»، مثلا انقلاباً على قناعاته، ورؤيته المبنية على التجديد. لكنه حقق المعادلة الصعبة، عندما جمع بين اللغة الفنية الراقية، والحس الجماهيري الخالص؛ فالفيلم يبدو، في ظاهره، أقرب إلى أفلام الإثارة Thriller والغموض Mystery، لكنه، في جانبه الأكثر عمقاً، يبحث في الكينونة، ويصل إلى أعلى درجات المتعة والوعي والإبهار في نظرته الموضوعية والذاتية حيال الواقع والوجود.

يبدأ «القط» بمشهد لآثار غارقة في المياه قبل أن تنتقل الكاميرا، فجأة، إلى ميدان يغص بالبشر يظهر فيه البطل (عمرو واكد) كنقطة في بحر، وهي المشاهد التي تُظهر الحس التسجيلي لدى «البطوط»، وتؤكد مهارته التي اكتسبها كمصور للحروب والبؤر المشتعلة في العالم، وبعد المقدمة الغامضة، التي تجمع بين الأسطورة والواقع، نرى مشهد تصنيع قنبلة موقوتة، وآخر لعصابة تختطف أطفال الشوارع، وتنتزع أعضاءهم البشرية ثم تقتلهم، وبعدها تصب الأسمنت وتُهيل التراب على جثثهم كالنفايات، بينما يجري بيع العذراوات منهن إلى الأثرياء العرب. ويكتمل مشهد العنف بارتكاب «القط» (عمرو واكد) مذبحة بشعة بمنطقة الإسعاف الشهيرة في وضح النهار يروح ضحيتها أحد مساعدي «الحاج فتحي» (صلاح الحفني) الذي يقف وراء هذه التجارة القذرة، ونُدرك مع الأحداث أن «القط» يثأر لابنته «أمينة» التي اختطفت وهي طفلة، ولم يظهر لها أثر.

«القوتان الأعظم»، حسب تعبير الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، («القط» و{الحاج فتحي») في صراع شرس لكن «الرجل الغامض» (فاروق الفيشاوي) الأقرب إلى «الشيطان» بيده مقاليد الأمور، وقادر، وحده، على بث الرعب في النفوس، وتأجيج العنف بين البشر، وكما تبدو «القاهرة» سجينة خلف القضبان، ترصد الكاميرا الأبراج الشاهقة التي تُطل على حطام وركام المناطق العشوائية، والجدار العازل بين الأغنياء والفقراء، ويتكرر التناقض في شخصية «القط»، الذي يحمل بين ضلوعه براءة طفل يستمتع بإطلاق الطائرة الورقية، والسيطرة عليها وهي تحلق في السماء، و{البلطجي» الذي يقتل بدم بارد، ويشعر بالضعف الشديد أمام والده «الحداد الفقير}!

اختار «البطوط» فترة الانفلات الأمني، عقب قيام ثورة 25 يناير، كزمن لأحداث الفيلم، ونوه إلى هذا صراحة بجملة الأب بعد مذبحة الإسعاف: «هو لو كان فيه حكومة كان يعمل كده؟»، كما توقف عند تحريض «الشيطان» على تكريس العنف كسبيل وحيد لإقرار العدل، وانتزاع الحق، وبرع في رسم الخلفية الاجتماعية للبطل، وطوال الوقت كان مهموماً بالحديث عن «القاهرة الأخرى»، ورصد «المنزل» المعلق في الهواء، كمصير البطل، ودعم شريط الصوت بالآيات والابتهالات والموسيقى الهادئة الغامضة. وجاءت اللغة البصرية لتكمل المعنى الدرامي (وقفة ونظرة البطل عكس اتجاه وحركة القطار، وكأنه يسبح ضد التيار) بينما تعكس ضبابية المشهد، عقب بتر ساقي والده، المستقبل المجهول الذي ينتظره، ولهو طفله بالطائرة الورقية على الشاطئ الإرث الذي انتقل إلى الابن، بينما تمثل التنويع البصري في الاستعانة بالحافلة النهرية!

 قد تبدو جرعة العنف مُفرطة، وزائدة، في فيلم «القط»، خصوصاً من جانب «الغجري» (عمرو فاروق) شقيق البطل، لكنها مُقننة من وجهة نظر البطوط، الذي أدرك بشاعة ما وصلنا إليه من عنف ووحشية وسفك للدماء، ونجح في أن يضعنا أمام أنفسنا، وضمائرنا، ويفضح ما وصلنا إليه من فوضى وعنف وانفلات. وباستثناء الاختيار غير الموفق لصلاح الحفني، والعصبية الزائدة للوجه الجديد عمرو فاروق، تبدو سيطرة المخرج إبراهيم البطوط واضحة على عناصره وتجربته، وبينما يقدم عمرو واكد مستوى رائعا من الأداء يؤدي المخضرم فاروق الفيشاوي، ببراعة وإقناع، دور «الشيطان»، رغم تشابه الشخصية مع تلك التي أداها القدير حمدي أحمد في فيلم «سوق المتعة»، ومع النهاية المفتوحة، التي ينتصر فيها الشيطان، ويعود البطل إلى جذوره، يُغلق البطوط القوس من دون أن يصل إلى الفيلم الجماهيري الذي يطمح إليه!