«البومة العمياء} (جغد كور) أحد أهم الأعمال في الأدب الإيراني الحديث. رواية عن الفقد والتدهور الروحي، مليئة برموز وصور سريالية متأثرة بنظرة صادق هدايت التشاؤمية عن الحالة الإنسانية.

Ad

صدرت الرواية سنة 1937، ويُعتبر صاحبها مؤسس القصة القصيرة في إيران. تابع صادق هدايت في طهران دروسه في المرحلة الابتدائية، كانت في المدرسة العلمية في طهران سنة 1914، ثم انتقل إلى دار الفنون في طهران سنة 1916. وعندما أصاب مرض عينيه، ترك دار الفنون (مكتبة إيران الوطنية اليوم) وذهب إلى مدرسة سان لوئي الفرنسية في إيران. راح يدرِّس القس في المدرسة اللغة الفارسية، فيما علَّمه الأخير الأدب العالمي.

هنا قسم من الرواية من ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا:

كانت أوديت غضة الشباب، نضيرة الوجه مثل زهور أول الربيع لها زوج من العيون مسكراً بلون السماء، وخصلات من الشعر الشقر كانت تتعمد أن تترك بعض الخصلات تتهدل على وجنتها. وكانت تجلس الساعات الطويلة إلى نافذة حجرتها وقد اتخذ وجهها وضعاً نصفياً شاحباً، ووضعت ساقاً على ساق، وتأخذ في قراءة رواية أو رتق جورب، أو تنهمك في أشغال الإبرة.

وحينما كانت تداعب أوتار الكمان بلحن {فالس جريزريه} كان قلبي يكاد ينخلع من مكانه. كانت نافذة حجرتي تواجه نافذة حجرة أوديت وكم من الدقات والساعات وأحياناً كم من أيام الآحاد كنت أراقبها فيها من وراء زجاج نافذتي، وبخاصة في الليالي حينما كانت تخلع جوربيها وتأوي إلى فراشها.

وهكذا نشأت رابطة بيني وبينها، وحينما كان يمر يوم من دون أن أراها، كنت أحسّ أن شيئاً قد ضاع مني، وفي بعض الأيام كانت تنهض وتغلق أحد مصراعي نافذتها من كثرة ما كنت أنعم النظر فيها.

مرَّ أسبوعان ونحن نرى بعضنا كل يوم، ولكن نظرات أوديت كانت باردة لامبالاة فيها، دون ابتسامة أو حركة تظهر بها أنها تميل إلي، فقد كان وجهها بطبيعته جاداَ صارماَ.

أما المرة الأولى التي التقينا فيها وجهاَ لوجه، فكانت ذات صباح حين ذهبت إلى المقهى الذي يقع على ناصية محلتنا للإفطار، وبينما أنا خارج منه رأيت أوديت وكانت تحمل حقيبة الكمان في طريقها إلى المترو، فسلمت فابتسمت، واستأذنت منها أن أحمل عنها الحقيبة وأسير معها، فأجابت بهزة من رأسها وهي تقول: {ميرسي} ومن هذه الكلمة بدأت علاقتنا.

ومن ذلك اليوم فصاعداً كنَّا نفتح نوافذ حجرتينا ونتحدث على البعد بحركة اليد والإشارة، وتطور الأمر بأن كنا ننزل فنلتقي في حديقة اللكسمبورغ، ثم نذهب إلى الخيالة أو المسرح أو أحد المشارب، أو نقضي الوقت بطريقة أو بأخرى. كانت أوديت تعيش وحدها في المنزل، فقد كانت يتيمة الأب أما أمها فقد سافرت مع زوجها إلى مكان ما، وبقيت أوديت في باريس لأمور تتعلَّق بعملها.

كان حديثها قليلاً، ولكنها ذات تصرفات طفولية عنيدة محبة، وكانت أحياناً تخرجني عن طوري... ومرَّ شهران على صداقتنا. وذات يوم قررنا أن نذهب ليلاً إلى حفلات {بوييه} لقضاء ليلة آخر الأسبوع. في تلك الليلة لبست أوديت ثوباً أزرق جميلاً، وبدت لي أجمل مما كانت، ومنذ خرجنا من المطعم، أخذت طوال الطريق ونحن في المترو، تتحدَّث معي عن حياتها حتى غادرنا المترو أمام {اللونابارك}.

كان ثمة جمع غفير يروح ويجيء، وعلى جانبي الطريق صفت أسباب التسلية والمرح من حلقات الحواة والرماية ورؤية الطالع وبيع الحلوى والسيرك والعربات الكهربائية التي تدور حول محور واحد بالكهرباء والبالونات التي تدور حول نفسها والكراسي المتحركة والألعاب المختلفة. كل ذلك كان موجوداً. واختلطت أصوات الفتيات بالحديث والضحك وتداخلت أصوات الموتورات والموسيقى.

وأردنا أن نركب عربة مغطاة، وكانت عبارة عن مقعد متحرك يدور حول نفسه، وفي أثناء دورانه يسدل ستار من نسيج بحيث يشبه الدودة الخضراء، وحينما هممنا بالركوب، أعطتني أوديت حافظتها وقفازها حتى لا يسقط منها أثناء الدوران، وجلسنا متلاصقين، وتحركت العربة وأسدل الستار الأخضر علينا، واختفينا عن أعين المتفرجين خمس دقائق... ثم سرنا وأخبرتني في الطريق أن هذه هي المرة الثالثة التي تأتي فيها إلى المعرض في ليلة العطلة إذ إن أمها كانت تمنعها، وذهبنا إلى عدة أماكن أخرى للتسلية، وأخيراً أخذنا طريق العودة في منتصف الليل وقد هدنا التعب. ولكن أوديت لم تكن قد ملت بعد فكانت تقف عند كل حلقة، وأقف معها مضطراً وقد جذبتها من ساعدها مرتين أو ثلاثة، وكانت تسير معي راضية أو كارهة، حتى وقفت عند حلقة رجل يبيع شفرات الحلاقة ويجربها ثم يدعو الناس إلى الشراء، وفي هذه المرة تحركت من مكاني وجذبت ساعدها بشدة وقلت:

- هذا الشيء ليس متعلقاً بالنساء.

فجذبت ساعدها مني وهي تقول:

- أعلم ذلك، ولكني أريد أن أرى.

وبدون أن أجيبها، واصلت طريقي إلى المترو، وحينما عدت كانت محلتنا خالية، وكانت نافذة حجرة أوديت مطفأة، وأضأت النور، وفتحت النافذة، ولم يزرني النوم، وأخذت أتسلى بقراءة كتاب، وفي الواحدة من منتصف الليل، ذهبت لأغلق النافذة وأنام، فرأيت أوديت قد حضرت، ووقفت تحت شباكها مستندة على عمود مصباح الغاز في الشارع، وتعجبت من تصرفها هذا، فأغلقت النافذة غاضباً، وبينما أخلع ملابسي، أدركت أن حافظة أوديت المنمقة معي وقفازها في جيبي، وعلمت أن نقودها ومفتاح منزلها في هذه الحافظة فربطتهما ببعض وألقيتهما من النافذة.

ومرت ثلاثة أسابيع وأنا طوال هذه المدة لا ألقي إليها بالاً، فحيثما كانت تفتح نافذة حجرتها، كنت أغلق نافذة حجرتي، وفي أثناء ذلك حدث لي ما يجعلني أرحل إلى لندن، وفي اليوم السابق لسفري إلى إنكلترا قابلت أوديت عند منحنى الشارع وهي تحمل كمانها وتسرع نحو المترو... وبعد أن سلمت عليها وحيتني أخبرتها بسفري واعتذرت لها عما حدث في تلك الليلة. ففتحت أوديت حافظتها بفتور وأعطتني مرآة صغيرة مكسورة من وسطها قائلة:

- من تلك الليلة حين ألقيت بحافظتي من النافذة... حدث هذا... ألا تعلم... أنه يجلب النحس.

وأجبت بضحكة، وأنا أقول لها أنها تؤمن بالخرافات، ووعدتها بأن أقابلها ثانية قبل السفر ولكني لسوء الحظ لم أفلح في ذلك.