حين نشر أورهان باموق كتابه "إسطنبول: الذاكرة والمدينة" 2005، كان عينةً مشجعة لكل كاتب ينتسب لمدينة عريقة. بعده بعام حاز جائزة نوبل. يمكن نسبة الكتاب إلى السيرة الذاتية، ولكن المؤلف أراده سيرة ذاتية لمدينة، تشمله شخصياً كمركز، وتحيط بالمدينة كتاريخ، ومجتمع، وسياسة، وثقافة. ولقد اتسم الكتاب بمَسحة أسىً عميق، لأن المدينة العريقة ذاتها تعرضتْ لعصفِ التاريخ، وفقدتْ هويتها.
أفترض، وقد لا يكون افتراضي صائباً، أن الكاتبَ العراقي زهير الجزائري (روائي، مفكر سياسي وإعلامي) كان قد قرأ الكتاب واستثاره، كما استثارني، ونضجتْ لديه على الأثر فكرةُ إنجاز كتابه "النجف: الذاكرة والمدينة" (دار المدى 2015). فالكتاب يطمعُ بهذه الإحاطة لمدينة بالغة العراقة، والقداسة، ولكن عبر سيرته الذاتية. ومَسْحةُ الأسى التي لمسناها في كتاب باموق تصبح عند الجزائري مسحةً دامية. وهي مَسحةُ العراقي بامتياز. لأن تعرضَ المدينة والعراق جملةً لعصف التاريخ، كان يتسم بالقتل الجماعي عن عمد، باسم الثورة، والدين والفكرة المقدسة. ترك الجزائري النجف، وهو ينتسب لعائلة خبَرت القيادة الدينية، والقيادة الثورية، والنزوع الليبرالي، إلى بغداد وهو في سن العشرين. ثم هجر العراق إلى منافٍ عدة وهو في الرابعة والثلاثين. ثم عاد عودة وجلة بعد أربعين عاماً، أي بعد التغيير: "وجلاً من ثلاثة مخاوف بانتظاري: النسيان، واللوم والموت. لن يعرفني الناسُ في المدينة بعد هذا الغياب... وسيلومونني لأني تركتهم أيام الفجيعة وأعود متأخراً، حين لم يبق إلا الرماد والجنائز." وبالرغم من أن الجنائزَ سمةُ المدينة منذ تأسيسها في القرن الثامن الميلادي، بسبب مقبرتها (وادي السلام) الأثيرة لدى الشيعة، فإنها لم تعدْ تنفرد بجثث (الموتى)، بل طغت جثثُ (القتلى) على امتداد العقود الأربعة التي تركها المؤلف وراءه حين غادر. وهي تتواصل حتى اليوم. حين غادر المؤلفُ النجف في العشرين، كان مُشبعاً بالأدب والفكر السياسي اليساريين. فالنجف كانت معقل القيادة لثورة العشرين، وكان جده عبد الكريم الجزائري أحد أبرز أعلامها. ثم أن النجف كانت معقل أولى خلايا اليسار السياسي (الحزب الشيوعي). ولكنه مُشبعٌ بالمعارضة للسلطة الدينية في مدينته أيضاً: لأن العِلمَ في "مدينة العلم" هذه "هو العلم بكيفية التحكم في سلوك الناس، ولقد منحت المدينةُ علمَها هذا القدسيةَ التي تحميها من الجدل والشك". "الارشادُ الديني ليس مجرد عمل تطوعي إنما هو سلطة. سلطة على أفعال الناس وعلى أرواحهم". ولقد توّجت هذه السلطة في المرحلة الحاضرة بالسلطة السياسية، فتفشّت الفضيحةُ بين العامة: "بشرياً غادر المدينة سكانها الأصليون واخترقت بشرائح هامشية مهاجرةٍ شكلت قاعدةً للسلطة الجديدة وأحزابها. وفي الواجهات صورة القادة الجدد وقد وضعوا صورة المرقد ديكوراً خلفياً". النجف، إلى جانب الفاعلية الدينية، والفاعلية السياسية، هي معقلُ فاعلية أدبية لا تقل تأثيراً، خرجت منها أهم خاتمة للشعر العربي التقليدي، وهو الجواهري. وسمة كل هذه الفاعليات تتعين في وحدة تناقض: في حاضرة دين يشاكسه إلحادٌ، ويمينٍ يناحره يسارٌ، وتقليدٍ تُربكه نزعةُ تجديد وتحديث. وزهير الجزائري الذي رحل إلى بغداد في العشرين، كان واحداً من مجموع، جاءوا بغداد ناشطين في موجة الأدب الستيني (حميد المطبعي، وموسى كريدي، وعبد الأمير معلة، وموفق خضر، وعبد الإله الصايغ، وزهير الجزائري). فعلى أيديهم تأسست أهم مجلة باسم هذا الأدب، وهي مجلة "الكلمة". هذه الخطوط البيانية، وكثيرٌ غيرها، تتقاطع بصورة شائقة في كتاب الجزائري هذا. لأن العنصر الذاتي، الشخصي، حاضرٌ في كل صفحة، الأمر الذي يمنحه حيوية، دون أن يفتقد النزعة الموضوعية. فالمؤلف شيوعي التوجه، ولكن باعتدال حين يرصد فاعلية التوجهات الأخرى. والمؤلف روائي، ولذلك لا تفتقد العرض الروائي لعديد من الشخوص. والمؤلف جدي ولكن بلمسات دعابة تُغنيك عن الجد أحياناً كثيرة. ثم أن الكتابَ، ككتاب أورهان باموق، مدعوم بصور فوتوغراف كثيرة، تُغني الذاكرة والمخيلة معاً.
توابل - ثقافات
النجف: الذاكرة والمدينة
22-01-2015