لست هنا سوى راوٍ لأحداث تلك الليلة كما سمعتها مراراً من أنيس منصور، الذي كنت أمضي معه أشهراً في معظم السنوات العشر الأخيرة من حياته – رحمه الله – ومما قاله أنيس:
• كتب عباس محمود العقاد رسالة لأحد أصدقائه في أواخر ديسمبر عام 1963: «إن نجوت بعد مئة يوم فسيُكتب لي عمر أطول»... والعجيب أنه لقي ربه بعد مئة يوم من تاريخ تلك الرسالة، التي نُشرت في ما بعد!التاريخ يحدثنا عن كثيرين تنبأوا بيوم موتهم مثل إبراهام لينكولن، ومارك توين، وبيتهوفن، وغيرهم كثيرون... والمدهش أن معظمهم صادف يوم موتهم الثالث عشر من الشهر!• في مساء الثالث عشر من مارس 1964، يطلب عباس محمود العقاد من الأصدقاء الذين يحيطون به وهو على سريره أن ينصرفوا إلى بيوتهم:- يلا يا تلامذة سقراط عودوا إلى بيوتكم... تصبحون على خير!فيقول له البعض منهم:- نرجوك أن تسمح لنا بالبقاء معك يا أستاذ.- لا... لا أسمح... ولكن قبل أن ترحلوا ممكن أعرف كيف عرف عبدالناصر أنني مريض، فبعث من يراني ويسأل عن حاجتي إلى علاج أو طبيب؟!- ليس أسهل من أن يعرف عبدالناصر أن العقاد طريح الفراش، وليس غريباً أن يرسل من يسأل عنك!- فيقول العقاد: أنا أرى أن ذلك غريباً، فأنا لست ممن يمجدون عبدالناصر!- لكنه كرئيس للبلاد يراك قيمة فكرية وقامة أدبية... أنسيت يوم كرمك بالجائزة التقديرية للدولة؟!- ما علينا... دعوني الآن أنفرد بعباس!ولأن مريديه كانوا يشعرون بآلامه الشديدة والمبرحة من الجانب الأيسر في بطنه حينما كان يتألم أمامهم ألحّ البعض منهم عليه بالبقاء معه، فكان يرفض ذلك بإصرار، واستبقى واحداً من المقربين إليه، وما إن خرج الجميع أخبره الذي استبقاه معه:- الدكتور طه حسين سأل عن صحتك كثيراً يا أستاذ!- وماذا قلت له عن صحتي؟!- لم أقل له الكثير هو يعلم عن حالتك تماماً.- سمعت أن طه يشكو من القلب.- يبدو أنه تعرض لوعكة، ونشرت الصحف أنه استقبل عدداً من الوزراء وأساتذة الجامعة والكُتاب والمثقفين.- شفاه الله.• ثم أخذ العقاد يتحدث بصعوبة عن فلسفة الموت والحياة بكلام متقطع، واستشهد بكلام توفيق الحكيم الذي كثيراً ما كان يتحدث عن الموت، ثم يضحك ويقول: «أستغرب أن الحكيم مازال حياً!».فيقول له صديقه:- أستاذنا ليت أنك تريح نفسك قليلاً من التفكير في مثل هذه المواضيع!- كأنك يا مولانا تُعلم العقاد أن يكف عن المجهود العقلي بسبب ما يعانيه من جهد عضلي!- عفواً أستاذنا إنني...- مقاطعاً... نعم يجدر بك أن تحترم العقل في كل الظروف!... ثم يضحك ويقول لصديقه: إنني أمازحك، لقد حان موعد التحاقك بزملائك، الساعة الآن وصلت إلى وقت متأخر!* * *• في تلك الليلة 13 مارس، وعند الساعة الثانية صباحاً، رحل عملاق الفكر ورمز العصامية الفذ عباس محمود العقاد، وفي الصباح خرج جثمانه من الشقة 13 في شارع السلطان سليم بمصر الجديدة إلى مثواه الأخير.• ولست أدري ماذا أقول عن العقاد لأبناء جيل «غوغل» ممن يلتهمون ما يزودهم به من معلومات بنفس سرعة التهامهم «سندويشات» المطاعم السريعة؟!لأنني أعلم أن العقاد عسير الهضم على الأذهان التي لا تمتلك معدة ذهنية تبتلع الصخر الثقافي، بينما «الغوغليون» اعتادوا الثقافة المخملية السريعة النسيان!
أخر كلام
العقاد يتنبأ بيوم وفاته!
14-03-2015