أعتقد أنه آن الأوان أن نحسب المسلسل التلفزيوني نصاً موازياً لأجناس الإبداع الأخرى، ذلك أن هذا اللون من الإنتاج المرئي بات يُعدّ من وسائل الثقافة الشعبية/ الجماهيرية إن صح التعبير. وكما أن هناك أدباً رفيعاً وأدباً رديئاً، هناك أيضاً من المسلسلات ما يضاهي الأدب الرفيع في التميّز والإبداع في تقنيات السيناريو والتصوير والتمثيل والإخراج، بل انها في بعض نماذجها الراقية باتت تستهدف جمهوراً نخبوياً يحسن التذوق واستيعاب الرسائل الفنية والفكرية في أبهى تجلياتها ومشاهدها.

Ad

وقد لا يخفى على المتابع ما للدراما السورية على وجه الخصوص من حضور فني وإبداعي وإمكانات تقنية مميزة، بل إنه مما يثير الإعجاب استمرارها في التميّز رغم الظروف السياسية والإنسانية التي تمر بها سورية في الأعوام القليلة الماضية. ويبدو أن تلك الأوضاع الدقيقة من المعاناة في مستوياتها الإنسانية خاصة، أفرزت لنا أيضاً ما يشابهها في مجال المخاضات الفنية المعبّرة عن آلام الإنسان السوري المبتلى بكربات الصراع والخراب وتكبيل الإرادة ومصادرة الحريات، فجاء مسلسل "قلم حمرة" ليحفر في قلب المأساة.

قد يبدو للمشاهد أن عنوان "قلم حمرة" ربما لم يكن موفقاً للتعبير عن فحوى المسلسل، إذ ان الدلالة في العنوان جاءت رمزية أو تهكمية محضة، وقد يمرّ عليها المشاهد المتعجّل بلا مبالاة، أو يسيئ فهمها، أو يسقطها على موضوعات خفيفة وتافهة لا تخرج عن تسلية مسائية أمام شاشة التلفزيون. وأتصور أن القائمين على المسلسل لم يضعوا هذه الاحتمالات أمامهم، الأمر الذي أبخسه – كما أعتقد – حقه في تحقيق نسبة مشاهدة عالية.

"قلم حمرة" دراما تحتاج إلى مُشاهد مثابر وصبور، وقادر في نفس الوقت على قراءة ما وراء الحوارات من ظلال المعنى، وعلى فهم أن المشهد الاعتيادي المشبع بالملل والتكرار وراءه ما يبرر اعتياديته وملله المقصودين ويوازيهما من حياة مملة وراكدة حدّ الموات.

ولهذا كانت الثيمة الأساسية للمسلسل تتبلور في محاولة رصد الإحباط النفسي العام الذي ران على الناس في بلد مثل سورية، وقف بها الزمان عند وضع سياسي واجتماعي راكد يائس ومشلول الإرادة. فجاءت الشرائح الإنسانية في متن المسلسل ومن شتى الأعمار، لتعبر عن هذا الجو النفسي المعبأ باليأس والعطب والدوران العبثي في إشكالات يومية حول علاقات فاترة وزيجات فاشلة وحب متوتر ورزق قليل ومستقبل بلا أحلام وحياة بلا معنى.

وحسناً فعل سينارست العمل ومؤلفه المبدع، تيم مشهدي، حين وسّع الشريحة الإنسانية عبر ثلاثة أجيال متعايشة معاً، وجعلها تمثّل الهمّ المشترك الذي لم يوفر أحداً منهم، ابتداءً من الشباب الجامعيين المفرغين من الطموح، مروراً بالكتّاب والفنانين الممتلئين بغمامات الكآبة وأشباح البطالة، وانتهاءً بشرائح النساء المبتليات بالطلاق أو الترمّل أو العنوسة أو بتربية أبناء في أجواء من العُسر والارتباك، فالكل في الهمّ سوريون سواءً بالأصل أو بالانتماء المكاني الذي لا مفر منه.

وأعتقد أن هذا اللون من الطرح عن أحوال المجتمع السوري كان بهدف التمهيد المسبب لما سيأتي بعده من تطلّع وآمال إلى التغيير، وخاصة مع تتابع الانتفاضات والحراك السياسي عبر خارطة الوطن العربي. ولكن مجرد المبادرة إلى الحلم بالتغيير أتى بثمار فجّة وأوضاع أكثر بؤساً ومأساوية.

بتقنية "الفلاش باك" أي الاسترجاع، استطاع مؤلف العمل ومخرجه أن يراوح بين زمنين: ما قبل الثورة على نظام الأسد وما بعدها. فقد كانت المشاهد منذ البدء تأخذنا بين الفجوات إلى موقع التصوير داخل زنزانة انفرادية شغلتها "ورد"، المرأة الثلاثينية التي لطالما فلسفتْ اعتلالات حياتها الراكدة ، لتجد نفسها متورطة بشكل ما بأحداث الانتفاضة ضد النظام، ثم وقوعها رهن الاعتقال والاغتصاب والارتهان لتلك الزنزانة التي أفقدتها شروط الكائن الإنساني الحيّ. وذات الشيء حدث للرجل الذي أحبته حباً مرتبكاً ومريضاً مثل زمنهما، حين وقع في قبضة تنظيم "داعش"، وناله ما ناله من إذلال وتعذيب، إلى حين هروبه من قبضتهم ولجوئه إلى لبنان.

يلتقي الاثنان بعد إطلاق سراح "ورد" في بيروت، حيث المزيد من الغربة والضياع والمستقبل الغامض والأحلام المؤجلة والأرواح المنُهكة. وهكذا لا نصل إلى نهاية تطمئن الضمير سواءً في المسلسل الدرامي أو في الواقع الأكثر درامية وانتهاكاً للإنسان. فالاحتمالات لاتزال مفتوحة، والجروح كذلك.

الجدير بالذكر أن تقنيات المسلسل تفوقت على ما هو اعتيادي في التصوير، إذ أدخل المخرج تقنية التناصّ مع اللوحات التشكيلية وفن الرسم، وذلك من خلال صنع صورة متحركة أشبه بفن الكولاج، بيد أنه كولاج متحرّك ومطعّم بحضور ممثلة العمل، وبحركات مبتكرة.

"قلم حمرة" عمل يستحق المشاهدة والتقدير. وهو من تمثيل سلافة معمار وعابد فهد، وتأليف وسيناريو تيم مشهدي، وإخراج حاتم علي.