بزرك علوي... «عيناها» ترصدان تفكّك إيران

نشر في 25-12-2014 | 00:01
آخر تحديث 25-12-2014 | 00:01
قليلاً ما تصل إلينا روايات من إيران، في حين يغلُب الشعرُ على حاضرة البلد الثقافية. من شهرة صاحب الرباعيات عمر الخيَّام، مروراً بتصوّف جلال الدين الرومي وغنائية حافظ الشيرازي، وصولاً إلى تمرّد الشاعرة فروغ فرخزاد... هي أسماء تُحاك حولها عشرات الأفكار، حتى بات الخيام أو الرومي مثلاً أشبه بحملة {تسويقٍ ثقافيٍ}، تُكتب عنهما (أو من خلال رمزيتهما) روايات لا تنحصر في {سمرقند} لأمين معلوف و{قواعد العشق الأربعون} للتركية آليف شافاك.
أمَّا في الرواية فقرأنا إيرانياً بعض العناوين، المسموح منه والممنوع، مثل {أن تقرأ لوليتا في طهران} لآذر نفيسي، وسبقها صادق هدايت في {البومة العمياء} الصادرة في أكثر من ترجمة. وكان لافتاً أخيراً أن تختار سلسلة {إبداعات عالمية} في عددها الجديد ترجمة رواية {عيناها} للكاتب الإيراني بزرك علوي (1904 – 1997).
ينقلُ برزك علوي في {عيناها} زمن {أمير كبير}، مؤسس الحداثة ومهندس التعليم الحديث في إيران، وكان لهذه المدرسة تأثير كبير في التحوّل الفكري لخريجيها وتطلعهم نحو الثقافات الغربية وسعيهم إلى إدخال الحداثة في إيران، وتشجيع وسائل الإعلام والميديا. ولكن ظلَّت الأمية والتخلف والخرافة والفقر والفساد والمحسوبية منتشرة في إيران، على أن التأثير الخارجي لم يتغيَّر كثيراً في أثناء حكم رضا شاه الذي كان يستخدم التدخّلات الأجنبية في بلاده كأحد أهم أسباب انقلابه على الأسرة القاجارية.

في ذلك الزمن، تنسابُ أحداث رواية «عيناها» الصادرة في بداية الخمسينيات، ولكن الحضور الخاص ما بَرِحها بحكم موضوعها، وعلى الرغم من انتساب صاحبها إلى اليسار فإنها نَجَت من براثن الأيديولوجيا التي تضيح بغالبية الكتابات.

أحد شخصيتي الرواية الرئيستين فنان تشكيلي مناضل مشغول بهموم الناس الكادحين وبمشكلات وطنه السياسية والاقتصادية يُدعى ماكان. والشخصية الأخرى فرنكيس، فتاة جميلة تنتمي إلى أسرة غنية، تتعرف إلى فنان مناضل يكبرها سناً ومختلف عنها في انتمائه الطبقي، لتتعلَّم الرسم على يديه بناءً على طلب والدها. تصدمها لامبالاة الأستاذ بها ويصعقُها تجلُّدَه أمام جمالها. والأسوأ أنها تكتشف افتقارها إلى موهبةً حقيقية. لاحقاً، تذهب إلى فرنسا للدراسة، ومن بين كثيرين تلتقيهم يكون اليساري خداداد سبباً في اجتماعها بماكان مجدداً إثر عودتها إلى طهران، حيث تبدأ قصة حبهما. أثناء ترددها على مرسمه يرسم بورتريهاً لها بعنوان «عيناها».

«عيناها» رواية حول المرأة العاطفية. ينظر علوي إلى المرأة نظرة عشق وهيام لا ريب، فالبطلة فرنكيس، على الرغم من أنها تنتمي إلى أسرة ثرية من علية القوم، فإنها تبقى مثل فراشة تدور حول ماكان. يتحوَّل حبها للرسم إلى ولهها بالفنان، فتعقد العزم، في البدء، على إبعاده عن خط نار السياسة، بيد أنها حين تجده مصرّاً على المضي قدماً في طريق مقاومة الاستبداد، تستسلم لإرادته وتدخل برفقته إلى ميدان النضال اليساري.

في تعقّبها المعارضين السياسيين، تلقي شرطة {رضا شاه} القبض على ماكان، ويوافق  رئيس دائرة شرطة الأمن في طهران العقيد آرام على تخفيف العقوبة مشترطاً الزواج من فرنكيس. ترضخ الأخيرة وتصبح زوجة العقيد، ونتيجة لذلك يُنفى ماكان إلى بلدة {كلات}، فيما تسافر هي بمعية زوجها العقيد آرام إلى باريس. لم تكن هذه الحياة الجديدة لتوافق طبع فرنكيس، ولم تستطع الجميلة أن تُهمل حبَّ ماكان.

يلقى ماكان حتفه في منفاه. يصل الخامس والعشرون من شهر أغسطس وتسقط حكومة رضا شاه، فتنفصل فرنكيس عن العقيد آرام وتتوجَّه إلى طهران باحثةً عن لوحة {عيناها} الذائعة الصيت.

شخصيَّات حقيقية

ارتبطت الرواية بشخوص حقيقيين. يحسِبُ كثيرون أن ماكان هو الفنان الإيراني كمال الملك، واسمه محمد غفاري (1849 – 1940)، وهو أحد كبار الفنانين الإيرانيين. أما آرام فيُعتقد أنه أيرو رئيس الشرطة في عهد رضا شاه، وخيل تاش هو لتيمورتاش وزير البلاط الشاهنشاهي آنذاك.

تسير أحداث الرواية في أوج دكتاتورية رضا شاه ووسط تغيرات سياسية ضخمة، مصورةً سلبيات المجتمع الإيراني ومشكلاته، من أمية وتخلّف وخرافة وفسق وفساد ومحسوبية واستيلاء على أراضي الملاك والمزراعين. هناك حيث جذور الجهل والتخلّف شديدة التشعّب، لا يقوى عليها تعلّق البعض بمظاهر التمدن الغربي، وكثيراً ما كان يتعايش نموذجا التمدّن الغربي والتخلّف تحت سقف واحد، كما حال أسرة فرنكيس، بوالد متشبث بمظاهر التمدن الغربي، ووالدة تواظب على تمسّكها بعقائدها الدينية وأفكارها التقليدية.

لا يكتفي برزاك علوي بتشريح المجتمع المدني الحضري، بل يتطرَّق إلى أحوال القرى التي تكالبت عليها مشكلات ثقافية واقتصادية نتيجة نظام دكتاتوري. أما الأبرز في الرواية فتحتلّه نشاطات اليسار الإيراني في داخل ايران وخارجها.

أحد العناصر المهمة التي أعطت {عيناها} قيمتها أنها تحاكي المرأة بقلم رجل، ومع أن بطلتها هي فرنكيس فإن الرواية اشتهرت كقصة رجل مناضل يكافح الاستبداد والظلم. والجانب الذي لم يفطن إليه كثير من دارسيها أنها اشتهرت كرواية سياسية فيما الرومانسية طاغية عليها. ويسع للمتعمّق فيها أيضاً النظر إليها بعين المحلل النفسي، أمام مشهد بطلة وحيدة أبويها متعلِّقة بوالدها المتحرِّر والمعجب بها، معتدة بجمالها وفتنتها، ويكاد يكون حبها لماكان رد فعل نرجسياً لرفضه التعامل معها كامرأة جميلة. وهي تحاول أن تظهر بشكل تعتقد أنه سيأتي مقبولاً لدى أستاذها الذي يكبرها سناً، وقد يمثِّل لها صورة الأب.

«عيناها} الرواية- المرآة حيث ترى إيران نفسها خلال منتصف القرن الماضي، زمن تقلّبات وبحث عن الهوية. هو المشهد الإيراني ما قبل الخمينية، زمن الصراع على الخيارات بين اليسار واليمين، بين النخب والشاهية، إلى أن انتهى المطاف بأن سيطر الملالي على النظام. ويسعُنا الجزم أن الصراع ما زال هو نفسه في المضمر.

علوي في سطور

وفق مقاييس القرن الماضي، علوي نموذج الكاتب الملتزم، استهوته الأفكار الاشتراكية على الرغم من تحدّره من عائلة دينية، وهو اطلع أيضاً على الفكر الأوروبي الحديث، وأفاد من الكتابات الماركسية الكلاسيكية، ثم سجن لخمس سنوات، كما يوضح سليم عبد الأمير حمدان في كتابه {قراءات في الرواية الإيرانية}.

وبحسب د. زبيدة أشكناني، تأثَّر علوي بتيار مثَّله صادق هدايت (أو من كتب رواية حديثة بالفارسية) صاحب مسرحية {بروين بنت الساسانيين}، والذي شكَّل مع علوي وكل من مسعود فرزاد ومجتبى مينوي ما أُطلق عليه {عصبة الأربعة}، في مواجهة التيار الأدبي الكلاسيكي المحافظ {عصبة السبعة}، ومن ضمن أعضائه سعيد نفيسي وعباس رشيد ياسمي.

ولد علوي عام 1903 وتوفي عام 1997 لأسرة تجارية متديِّنة تشغلها السياسة؛ والده سيد أبوالحسن علوي ووالدته خديجة قمر السادات كانا من المناصرين للحركة الدستورية في إيران. وكان الجد مجتبى أحد أعضاء حزب إيران الديمقراطي المناهض للوجود الإنكليزي والروسي في إيران، ووالدته حفيدة آية الله طباطبائي، أحد أقطاب الحركة الدستورية.

back to top