على حلف شمال الأطلسي اكتشاف علة وجوده مجدداً
لا نبالغ إن قلنا إن قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي تدوم يومين في ويلز تمثل لحظة مصيرية في خمس وستين سنة من تاريخ هذه المنظمة، إذ كثر في السنوات الأخيرة التساؤل عما إذا كان لهذا الحلف عبر الأطلسي الذي نشأ بعد الحرب أي مستقبل، خصوصاً بعد إنهائه العمليات القتالية في أفغانستان في نهاية السنة الحالية، علماً أن هذه تشكل العملية العسكرية الكبرى التي اضطلع بها هذا التحالف، فمع تراجع الميزانيات الدفاعية بشكل جذري، خصوصاً في القوى الأوروبية الرئيسة، والنقص الواضح في الإرادة السياسية للتوصل إلى اتفاق في المسائل الأمنية الحيوية، نجح النقاد في تقديم حجج قوية تؤكد أن هذه المنظمة تواجه حقاً خطر فقدان أهميتها.يعتمد احتمال تحوّل هذا التوقع إلى واقع إلى حد كبير على طريقة تفاعل قادة أمم الحلف الثماني والعشرين مع مجموعة مخيفة من التحديات الجديدة التي لا تهدد اليوم أمن أوروبا فحسب، بل العالم أجمع، فقتل الصحافي الأميركي ستيفن سوتلوف المريع على يد إرهابيين إسلاميين في العراق، واحتمال أن تواجه رهينة بريطانية المصير ذاته يبرزان خطراً حقيقياً يهدد أمن الغرب، خطراً سببه مقاتلون يرتبطون بتظيم أعلن نفسه دولة إسلامية وتأصل في مناطق شمال سورية والعراق التي غاب عنها القانون، أضف إلى ذلك تدخل فلاديمير بوتين العسكري السافر في أوكرانيا، حيث تدعم قواه بوقاحة مجموعات المتمردين، حتى إن الدبابات الروسية أيدت بوضوح جهود السيطرة على مطار لوهانسك، وقد حاول بوتين على الأرجح تأكيد تجاهله محاولات الغرب كبح لجام روح المغامرة الجديدة التي أعرب عنها الكرملين بقوله متفاخراً: "إذا أردت، أستطيع الاستيلاء على كييف في أسبوعين"، بالإضافة إلى كل ذلك، نواجه خطر تنظيم القاعدة المتواصل، المصير المجهول الذي ينتظر أفغانستان عندما تنتهي مهمة "الناتو" التي تقودها الولايات المتحدة مع انسحاب قواتها في وقت لاحق من هذه السنة، وغياب القانون الذي بات متفشياً في مناطق أخرى من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فمن الواضح، إذاً، أن الغرب يمر بأصعب مراحله منذ نهاية الحرب الباردة.
لا شك أن قدرة "الناتو" على الرد بفاعلية على هذه المخاطر الكثيرة تعتمد في المقام الأول على ما إذا كان يستطيع التوصل إلى القيادة والإرادة السياسية الجماعية الضروريتين لاتخاذ خطوات حاسمة ضد أعدائه الكثر. ففي منظمة تتطلب عملية صنع القرارات فيها إجماعاً واسعاً، تصطدم محاولات التوصل إلى سياسة مشتركة غالباً بانشقاقات سياسية عميقة، وقد تجلت هذه الانشقاقات أخيراً من خلال الطريقة التي سعت بها القوى الأوروبية إلى الرد على الأزمة الأوكرانية مع رفض دول مثل ألمانيا وإيطاليا دعم رد أكثر تشدداً أيدته بريطانيا والولايات المتحدة. فضلاً عن ذلك، عانت قضية "الناتو" بسبب رفض الرئيس باراك أوباما التدخل في الصراعات في الخارج، وقد تجلت مقاربة أوباما المنعزلة هذه بوضوح الأسبوع الماضي حين أقر الرئيس: "لا نملك استراتيجية بعد للتعاطي مع مقاتلي الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) رغم هجماتهم المميتة على مواطنين أميركيين".من الجيد أن ثمة إشارات مشجعة إلى أن عدائية بوتين في شرق أوروبا قد أيقظت أخيراً قادة الحلف من سباتهم العميق، فقبل القمة الأخيرة أعلن أندريس راسموسن، الأمين العام لـ"الناتو" المنتهية ولايته، تأسيس قوة تدخل سريع جديدة مؤلفة من 4 آلاف عنصر قادرة على التفاعل مع أي أزمة مستقبلية في شرق أوروبا في غضون 24 ساعة. كذلك ستتعرض دول أعضاء أوروبية كثيرة لضغط كبير كي تفي بالتزامها بإنفاق 2% من إجمالي ناتجها القومي على الدفاع، وينطبق هذا على بريطانيا حيث ذكر الدكتور ليام فوكس أخيراً أن على ديفيد كاميرون الإعراب عن التزام قوي بإبقاء الإنفاق على الدفاع 2%، بالإضافة إلى ذلك، يشكّل قرار إنشاء مراكز لوجستية جديدة على طول الحدود مع روسيا بغية تسريع عملية تزويد المعدات العسكرية، إن وقعت أزمة جديدة، مؤشراً مرحباً به، إلا أن أعضاء الحلف ليسوا مستعدين لتقبّل أي غزوات جديدة ينفذها الكرملين، ولا شك أن هذه كلها إشارات مشجعة إلى أن الحلف أعاد اكتشاف علة وجوده الحقيقية: كل ما نحتاج إليه اليوم أن تقدّم الدول الأعضاء قيادة سياسية فاعلة.