كم هي مكلفه مطاردة الزمن لي؟
مطاردة لا تسكن لا تغفل ولا تهمد، ولا تتوانى عن الوخز والنغز كلما غفوت أو تغافلت أو فتحت طاقه للنفاذ والهروب في محاولة للتوهان منه، وتركه في نسيان مؤجل مؤخر، حتى تهدأ سنوات العمر وتهنأ في غفوة مؤقتة، متناسية دقات المنبه الراكض في بندول وقت يستحث لهاث عمرنا المسروق في طياته.من فجر قصائدي المبكرة الأولى شعرت باكتظاظه بها ومحاصرته لها، بحبسها وتطويقها بهذا الشعور المتضخم المحاصر بأدق تفاصيل حركة جريان الزمن في حياة الناس وحياتي على وجه الخصوص، وعيًا به يكاد يجلدني بسوطه طوال الوقت مهما حاولت التناسي والتغافل عنه، مما يجعلني أتساءل هل من الممكن أن استيقظ يوما لا أعرفني فيه أو لا أجدني في جسدي؟!أو هل من الممكن والجائز جدا أن تسألني صديقة عمري حين أهاتفها من أنت؟وهل تتركني على دكة العمر أنتظر وحيدة، وعندما أذكرها بنهاراتنا الذهبية، ومساءاتنا المرتخية بهديل الراحة على أهداب نافذة الليل المفعم برائحة النيل الساكن في غفوته الأبدية، ونحن نجمتان هربتا من ضوضاء نجوم السماء، لتنزويا في قلب فرندا يحفها ليل المعادي المندى بشبورة قاهرتي التي كانت تحتفل بعرسها، وكان تفاحنا يغوى العشاق بقضمه، وطزاجته تفح بنضارة شهوتها، ويتبطر وردنا بفوح عطره رغم معرفته بقصر وقته؟هل يأتي هذا الوقت لأفكك فيه نسيجه غرزة غرزة حتى أبطل سحر نفاثاته عقدة عقدة؟ماذا يتبقى منه غير حكايات وقصص منتصرة أحيانا، وفي الغالب مهزومة؟وأنا التي لا أرى في الهزيمة إلا نقطة العسل الصغيرة التي تلمع فيه كدمعة ذهبية غالية، أحرص على إعادة إنتاجها وامتصاصها كلما ضاقت حدود الدنيا ووسعت حدقة الرؤية، لتتضح كل تضاريس المخبئات في سحر الأوهام والأحلام، وكل تلك الطلاسم التي يستغويها ربيع العمر بفجاجة صبا مغرور بفوران طاقاته، التي يختبئ خلفها زمن لا يعبأ بمخلوقات ليست أكثر من ناموس يهشه حينما يقوى ويتكاثر.نحن ماذا نكون في الزمن الكوني الأبدي الشاسع الذي يبتلع إعادة تكرار مشاهد الخلق والذبول والأفول؟سيرة مملة لا تنتهي، لعبة ماسخة ممعنة في الإعادة والتكرار، وآلة الزمن تكر تروسها في العجن والهرس المستمر.مطاردة غالية ومكلفة جدا حينما تصبح الحياة كلها هروبا منه ومن مطاردة تنحت وتبري حتى تصل إلى جوهر المنحوت لتطيحه في نفخة واحدة، فكيف يهرب الطين من نحاته، وكيف ينجو الحجر من أزميله؟!إلا بالهروب الكاذب بخلق أوهام النجاة بالترحال والتنقل في ضياع المحطات، والهروب في مضارب الأرض أينما اتسعت وتوحشت، منحت الغياب فرصة أكبر للتوهان والنسيان.ما الذي يمسكنا في سراب هذا الحلم غير الواقعي، غير إصرارنا الذي هو ترس الحياة الذي يدور ويدور ويقبض على دورانه بشدة، مهما تخلخلت مفاصله وارتجت عظامه وطُوحت أحلامه وأماله، إلا أنه حتى وهو في الرمق الأخير يبقى متشبثا في ذيل زمن لا يعبأ فيه، ولا يرتق طرف الشق ما بينه وبينه.ولتوقيف عقارب الإحساس بالزمن في تجميد وتخدير مؤقت للمطاردة لأجل غير معلوم، لأنه أصعب ما في الزمن هو الشعور بمطاردته، وأوجع من مطاردته هو الضياع في الهروب المستمر منه، المرتعد من إفاقة يوم لا يعرفنا ولا نعرف وجودنا فيه، وكل قصصنا ونضالنا ومناطحتنا لتثبيت وجودنا في بناء أصلا هو في أساسه منخور ومخوخ ولولا عصاته المتشبث بها، لانكشف حاله وضاع غبار ترابه ذرات في الأزمنة السحيقة المتعاقبة في عمق عمر الكون، هنا يأتي السفر كتعويذة وكتطبيب للهروب من جلاده، والإفلات من قبضة الصارم الذي لا تتسرب من قبضته إلا بعض الأساطير التي يرددها صدى أزمنة لاحقه، أنه قد سُطرت فوق سطحه خرابيش لآثار مخلوقات تحجرت قلوبها في مستحثات مغروزة في صخور أزمان متعاقبة في عمق كون هادر في أبديته الخالدة، التي لن تتوقف في لحظة عابرة لتتأمل سرد كاتب مغرور موهوم.فلقم الطريق بقدميك وأوقف عقارب الساعة، وعطل عداد الزمن في ترحال بدو "النوماد" في زمنهم المفقود.
توابل - ثقافات
سرد كاتب موهوم
22-09-2014