أبراهام لينكولن وآباؤه المتعددون
يتطلع الأبناء إلى آبائهم بحثاً عن الدعم وعن قدوة يحتذى بها. يحتاجون إلى الغذاء والتعليم ومصدر إلهام يؤثر بهم. لكن حين يقصّر الآباء في هذا المجال، غالباً ما يتطلع الأبناء إلى شخصيات أخرى تحمل صفة الأب في الحياة أو التاريخ أو الأساطير للحصول على ما حرمهم منه آباؤهم البيولوجيون.لم يتعلم أبراهام لينكولن الكثير من والده البيولوجي، لذا عمد إلى اعتبار الآباء المؤسسين في مصاف والده.
كان أبراهام لينكولن ووالده مختلفين على جميع المستويات تقريباً. كان توماس لينكولن الذي عمل كمزارع ونجار لإعالة نفسه متحفظاً من الناحية العاطفية ويجيد القراءة والكتابة بشكل محدود ولم يكن طموحاً. أما ابنه أبراهام، فكان حساساً ويعشق اللغة والمنطق وبدا مصمماً على إثبات نفسه في العالم. من حسن حظ لينكولن الابن، قدمت الولايات المتحدة في بداية القرن التاسع عشر مجموعة لافتة من الشخصيات الأبوية: إنهم الآباء المؤسسون، أي أبطال الجيل السابق الذين استرجعوا استقلال البلد وأنشاؤوا مؤسساته. شكّلوا مصدر إلهام لأبراهام لينكولن في صغره وشبابه، فتطلع إليهم حين أصبح سياسياً ناضجاً واتكل على توجيهاتهم خلال تجربة الحرب الأهلية المريعة.وُلد أبراهام في عام 1809 في كنتاكي. وفي عام 1816، انتقل إلى الجهة المقابلة من نهر أوهايو وتوجه نحو ولاية إنديانا الجديدة مع والده ووالدته نانسي وشقيقته سارة.كان توماس زوجاً وأباً صالحاً من ناحية معينة: فهو لم يفلس يوماً ولم يترك ديوناً ضخمة وراءه ولم يكن يثمل، وهو سلوك نادر في الولايات المتحدة خلال تلك الحقبة التي استفحلت فيها ظاهرة شرب الكحول، وقد أرسل أولاده إلى المدارس المؤلفة من غرفة واحدة لتعلم القراءة والكتابة، وهي مهارات بالكاد كان يجيدها هو.لكن لم يتفق الأب وابنه يوماً. أراد توماس الذي كان يعمل بيده دوماً أن يتعلم أبراهام القراءة والكتابة ولكنه لم يفهم مطلقاً أن القراءة يمكن أن تكون شغفاً حقيقياً. في المقابل، كان أبراهام جدياً وفضولياً، وكان يتوق إلى مطالعة كل كتاب يحصل عليه. حتى إنه كان يحمل معه الكتب عندما يذهب لحراثة الحقول كي يقرأها خلال استراحة حصانه. في سيرة ذاتية أصدرها خلال حملته لأول ولاية رئاسية له في عام 1860، كتب لينكولن أن والده {لم يستعمل الكتابة يوماً إلا لتوقيع اسمه بطريقة خرقاء}. كانت كلمة {خرقاء} تحمل أعلى مستويات الازدراء!بالإضافة إلى الاختلافات الفكرية، كان الأب لينكولن وابنه متباعدين من الناحية العاطفية أيضاً. فقد كان توماس عنيداً ومصمّماً بطريقته الخاصة. المقولة الوحيدة التي يتذكرها ابنه منه كانت تعبّر عن أهمية المثابرة: {إذا قمت بخيار سيئ، حاول الاستفادة منه}. كان يمكن أن يكون أبراهام مثابراً على طريقته، وقد اتضح ذلك من خلال مواقفه الحازمة أثناء الحرب الأهلية لاحقاً، لكن لطالما كان متوتراً ويعبّر عن عشقه للشعر الحزين من تأليف بايرون وشكسبير وكان معرّضاً للاكتئاب.كان توماس لينكولن سعيداً بوضعه في الحياة بينما أراد أبراهام المزيد دوماً. كتب عنه شريكه القانوني ويليام هرندون: {كان طموحه أشبه بمحرك صغير لا يعرف الراحة}.في عام 1830، انتقلت عائلة لينكولن إلى إلينوي. بعد سنة، حين بلغ أبراهام 21 عاماً، استقلّ عن عائلته ونادراً ما كان يقابل والده في المرحلة اللاحقة.بحلول تلك الفترة، كان الآباء المؤسسون قد بدأوا يتركون بصمتهم في عقلية لينكولن، فوفروا له دعماً رمزياً ووجّهوه بطرق لم يفعلها والده البيولوجي.الأب الثانيحين كان لينكولن في العشرينيات من عمره، تقرّب من أب مؤسس ثان، وهو الصحفي الوطني توماس باين. كان باين معروفاً بشكل أساسي بكتيّب {حسّ المنطق} الفصيح الذي يدعو إلى استقلال الولايات المتحدة، وبكتاب {عصر المنطق} حيث يهاجم بشراسة الديانة المسيحية، ما جعله سيء السمعة بين المتدينين. قرأ لينكولن مؤلفاته للمرة الأولى بعد انتقاله إلى إلينوي بفترة قصيرة.كانت أسلحة باين المفضلة تشمل الفكاهة اللاذعة والتفسير الحرفي. فكتب عن ولادة العذراء: {لو قالت أي فتاة، أنجبت طفلاً الآن، أو أقسمت على أنها حملت بطفل من شبح وأن ملاكاً أخبرها بذلك، هل سيصدقها العالم؟}. هاجم باين قصة مقدسة عبر ترجمتها بالمصطلحات اليومية الشائعة والحكم عليها وفق معايير التفكير المنطقي.كان لينكولن يذهب إلى الكنائس المعمدانية مع عائلته في صغره. لكن في أولى مراحل شبابه، اقتنع بحجج باين كلها (ربما أراد بذلك التمرد ضد والده المؤمن). كان القاضي جيمس ماثيني صديقاً مقرباً من لينكولن في مرحلة الشباب، ولطالما تذكّر أن لينكولن كان يقرأ دوماً مقطعاً من الكتاب المقدس ثم يثبت {عدم صحته وجنونه استناداً إلى المنطق}.لكنّ الكتاب المقدس هو أكثر من مجرد تاريخ حرفي أو سيرة أدبية، فهو يهدف إلى شرح حقيقة الله ومكانة الإنسان في العالم (سرعان ما تجاوز لينكولن أفكار باين الملحدة مع التقدم في السن). لكن لازمته طريقة باين في طرح الحجج طوال حياته. حين درس لينكولن القانون والسياسة، استعمل أسلوب الفكاهة لطرح نقاط جدية كما كان باين يفعل. خلال خمسينيات القرن التاسع عشر، حين اتهم الديمقراطيون (حزب العبودية) الجمهوريين (خصومهم) بخلط الأعراق، رد لينكولن بعبارة تشبه أسلوب باين: {لا أفهم ذلك: إذا كنت لا أريد أن تكون أي امرأة زنجية مستعبدة، فهل يعني ذلك بالضرورة أنني أريدها زوجة لي؟ من وجهة نظري، يجب أن أتركها وشأنها بكل بساطة}. ثم قطع مظاهر الهلع العرقي والجنسي بمزحة تزامناً مع طرح فكرة جدية: ترك الشخص وشأنه يعني منحه الحرية.أداة متواضعة كان سفك الدماء مريعاً على الجميع. بالنسبة إلى شخص معرّض للاكتئاب مثل لينكولن، لا شك في أن الوضع كان أسوأ بعد. حين أمضى صديقه القديم جوشوا سبيد فترة بعد الظهر من أحد الأيام في البيت الأبيض وسمع توسّلات أمهات وزوجات المشاركين في الحرب، قال له سبيد: {لينكولن، بما أنني أعرف مدى حساسيتك وعصبيتك، أتفاجأ أن هذه المشاهد لا تقتلك}.لذا لجأ لينكولن إلى شخصية أبوية أخرى: الله. في سنواته الأخيرة، فكّر ملياً بهدف الله حين سمح بوقوع الحرب واستفاض بتفكيره. قال لينكولن لأحد زوار البيت الأبيض في عام 1862: {أنا مجرد أداة متواضعة بيد الآب السماوي. لكن إذا فشلت الجهود الحثيثة التي بذلتُها لإنهاء الحرب، يجب أن أؤمن أن الأمر حصل لسبب أجهله. إرادته مختلفة}.بعد مرور أكثر من سنتين وسقوط آلاف القتلى، ظن لينكولن أنه اكتشف أخيراً هدف الله، وقد شرح قناعته في خطاب تنصيبه الثاني. استعمل منطقاً دينياً يتجاوز أسلوب رصد الأخطاء الذي اعتمده باين. فاعتبر أن الحرب كانت عقوبة للبلد بسبب ممارسات العبودية: {إذا أراد الله أن تستمر الحرب، حتى تزول جميع الثروات التي جُمعت غداة 250 سنة من الاستعباد، وحتى دفع ثمن كل قطرة دم سقطت نتيجة ضرب العبيد بالسوط... فلا بد من الاعتراف بأن أحكام الرب صحيحة ومنصفة}.كان الله بنظر لينكولن صارماً، أكثر مما كان بنظر توماس لينكولن نفسه. لكن ثمة مقطع ختامي لرأيه: {من دون حقد تجاه أحد وحرصاً على فعل الخير مع الجميع، يجب أن يناضل الأميركيون لمداواة جراح الوطن}. بوحي من الآباء المؤسسين وبتأديب من الله الآب، كان يجب أن يخوض لينكولن والوطن عموماً عملية سلام طويلة وشاقة.أول أب مؤسسكان جورج واشنطن أول أب مؤسس أثّر بلينكولن، من خلال السيرة الكلاسيكية {حياة واشنطن} بقلم بارسون ويمز. كان ويمز صانع خرافات وقد تركت القصة التي سردها عن جورج الصغير وشجرة الكرز أصداءً هائلة لا تزال عالقة في عقول الناس. وفق تلك الحكاية، يتلقى جورج من والده فأساً فيستعملها عن غير قصد لقطع شجرة كرز ثمينة. حين يسأل واشنطن عن مرتكب ذلك العمل، يجيب جورج الصغير: {أنا لا أستطيع أن أكذب!}. ثم يعترف بغلطته ويشيد الجميع بصدقه. هكذا أصبحت القصة شائعة وتعلّم الجميع درساً منها.لكن لم تكن حكاية ويمز عن واشنطن الذي اعتُبر صبياً صالحاً أكثر ما أثّر بلينكولن بل وصفه لواشنطن كرجل عظيم. في عام 1861، حين مر الرئيس المنتخَب لينكولن بمدينة ترينتون، نيو جيرسي، في طريقه إلى حفل تنصيبه الأول، ذكر في خطابه أنّ ويمز هو من عرّفه على معركة ترينتون، أي الهجوم الشتوي المفاجئ الذي شنّه واشنطن لإنقاذ الثورة وسط موجة من الإحباط العام: {أتذكر أنني فكرتُ حينها، رغم صغر سني، بضرورة وجود هدف آخر ناضل هؤلاء الرجال لأجله ... وهو هدف واعد جداً بالنسبة إلى جميع شعوب العالم وجميع الأزمنة المقبلة}. سرعان ما أدرك لينكولن أن الهدف الذي ناضل من أجله واشنطن ورجاله فيما كانوا يعبرون ولاية ديلاور الجليدية ويقاتلون في ترينتون هو الحرية. كان واشنطن زعيماً عظيماً وكان يناضل في سبيل قضية عظيمة. هذا الجانب هو أكثر ما أثّر به وليس قصة شجرة الكرز.الأب الثالثالمؤسس الثالث الذي تعلم منه لينكولن واعتبره مصدر إلهام له هو توماس جيفرسون، وقد استماله بسبب قناعاته المعادية للعبودية. في عام 1776، كتب جيفرسون إعلان الاستقلال حيث تنصّ أول حقيقة بديهية على أن {جميع الناس يولدون متساوين}. حين كان عضواً في الكونغرس في عام 1784، اقترح حظر العبودية لغير سكان أبالاشيا. بعد ثلاث سنوات، صادق الكونغرس على نصف هذه الفكرة، فأعلن الأرض الشمالية الغربية (أي الولايات التي ستحمل مستقبلاً أسماء أوهايو وإنديانا وإلينوي وميشيغان وويسكونسن) خارج حدود العبودية. في عام 1807، وقّع الرئيس جيفرسون قانوناً يمنع تجارة الرقيق القادمين من الخارج. بالنسبة إلى لينكولن، كان سجل جيفرسون واضحاً: هو أعلن نظرياً أن الحرية حق غير قابل للتصرف ودعم سياسياً استراتيجية الاحتواء، ما أعاق توسع العبودية غرباً تزامناً مع وقف وصول العبيد من إفريقيا. عبّر لينكولن عن الوضع في عام 1859 قائلاً: «مبادئ جيفرسون تعكس أسس وبديهيات المجتمع الحر».لكن كان جيفرسون شخصية مترددة أكثر مما أراد لينكولن الاعتراف به، ما يثبت أن العلاقة مع أي شخصية أبوية قد تكون معقدة بقدر العلاقة مع الأب الحقيقي، ويتطلب هذا الوضع عملية عقلية لتجاهل الأجزاء السلبية في الشخصية.كان جيفرسون يملك مئات النساء المستعبدات واتُّهم بإنجاب أولاد من إحداهن: سالي هيمينغز. حين تقدم في السن، تخلى عن استراتيجية الاحتواء الخاصة به، معتبراً أن العبودية ستضعف بفاعلية أكبر إذا انتشرت على نطاق الغرب كله. (تجاهلت هذه الفكرة مدى صعوبة استئصال العبودية حتى لو كانت نادرة – تطلبت عملية التحرير في ولاية نيويورك نحو ثلاثة عقود). لكن تجاهل لينكولن تناقضات جيفرسون أو ما يُسمّى الآن {سياسة التخبط}. كان يهتم بشخص جيفرسون باعتباره صاحب الرؤية الذي أطلق إعلان الاستقلال ببيانه المثالي عن {حقيقة بديهية تنطبق على جميع الناس في جميع الأزمنة}. يحتاج الأبناء إلى أن يكون آباؤهم في أفضل أحوالهم: يحتاجون أحياناً إلى تصديق أنهم أفضل مما هم عليه فعلياً.برزت مشكلة أخرى بالنسبة إلى لينكولن: أراد كل سياسي في أيامه احتكار الآباء المؤسسين لنفسه. إذا كان آباؤكم شخصيات عامة، فمن المتوقع أن يحاربك أبناؤهم الآخرون لتحديد ما يمثلونه. ظن الديمقراطي ستيفن دوغلاس، خصم لينكولن القديم في الساحة السياسية في إلينوي، أن الآباء المؤسسين رسخوا مراوحة مثالية. فقال إن {هذه الجمهورية يمكن أن تبقى إلى الأبد منقسمة إلى ولايات حرة وأخرى مستعبدة، مثلما جعلها آباؤنا}. لذا يجب أن يلتزم لينكولن والجمهوريون الصمت بشأن العبودية. لكن رفض لينكولن هذا الموقف: الآباء المؤسسون لم يجعلوا الوطن حراً في جزء منه ومستعبداً في الجزء الآخر، بل إنهم ورثوه من الماضي الاستعماري. بالتالي، كان احتواء العبودية أفضل حل يمكن أن يفكروا به. كانت هذه الحجة المضادة سلسة ولكن دائماً ما تكون محاولة جذب انتباه أهلنا (حتى الأهالي الرمزيين) وكسب موافقتهم مهمة صعبة.فاز لينكولن ضد دوغلاس سياسياً، فتفوق عليه في الانتخابات الرئاسية لعام 1860. لكن حين انفصلت 11 دولة مستعبدة بعد فوز لينكولن، برزت الحاجة إلى ما يتجاوز سياسة الاحتواء. تحدث لينكولن عن الآباء المؤسسين على مر الحرب الأهلية، لا سيما {خطاب جيتيسبيرغ} الذي استذكر إعلان جيفرسون و}الوطن الجديد الذي نشأ في جو من الحرية}.لكن واجه لينكولن مشكلة أخيرة مع شخصيات آبائه: لم تعد توجيهاتهم الروحية كافية. صحيح أن بطولاتهم والمبادئ التي طرحوها كانت لا تزال تشكّل مصدر إلهام له، لكن بدت أهوال الحرب أكبر من أن يتحمّلها البلد.