لم يكن من الطبيعي أن أعد كتاب "سعيد مرزوق... فيلسوف الصورة" من دون أن أتحدث إلى فاتن حمامة؛ لكونها شاركته في عدد من أهم أفلامه مثل: "أغنية الموت" (1973)، "أريد حلاً" (1975) و"حكاية وراء كل باب"، الذي ضم ثلاثة أفلام قصيرة هي: "ضيف على العشاء"، "موقف مجنون"، "النائبة المحترمة" و"أريد أن أقتل".

Ad

 ووسط حالة من الرهبة لم تواجهني طوال سنوات عملي بالصحافة الفنية طلبتها على الهاتف الأرضي، بعد أن علمت أنها لا تتعامل مع الهاتف النقال،  واستأذنت في الحديث إليها، وهاجس يتملكني أنها ستتهرب، كما يفعل النجوم، وتتذرع بأنها مشغولة، أو تطالبني بالحديث في وقت آخر!

 لم أصدق نفسي عندما فوجئت بها ترد عليّ، وتسألني بصوت خفيض عن سبب المكالمة، ولما أخبرتها أنني بصدد تأليف كتاب عن المخرج سعيد مرزوق، وأود لو حدثتني عن علاقتهما الفنية، تخلت عن تحفّظها، ووصفته بأنه "يتمتع بحساسية فائقة، وهو يتعامل مع الكاميرا" وأنهت بقولها: "عبقري ورجل سينما من الطراز الأول، وواحد من أفضل من التقيتهم فهماً لطبيعة ووظيفة السينما ودورها".

 واقعة كشفت لي عن التواضع الجم الذي تتمتع به فاتن حمامة، وشجعتني على معاودة الاتصال بها في فترة التحضير لكتابي الثاني عن "بركات... زعيم المحافظين في السينما المصرية"، فقد ربطت بينهما علاقة وطيدة، على الصعيدين الفني والإنساني، دفعت المخرج الكبير إلى الاعتراف قائلاً: "أفلامي معها تفقد الكثير من رونقها لو نزعناها منها"، لكنني علمت أنها في رحلة علاج خارج مصر، ودعوت لها بالشفاء والعودة سالمة إلى أرض الوطن، لكن القلق تسرّب إلى نفسي، بعد ما علمت من الناقد الكبير سمير فريد أنها تراجعت، بسبب وعكتها الصحية المفاجئة، عن وعدها بقص شريط افتتاح معرض "بركات" في الدورة الـ36 لمهرجان القاهرة السينمائي!

 حدث هذا مطلع نوفمبر الماضي، وعادت "سيدة الشاشة العربية" إلى مصر، بعد أن اجتازت وعكتها الصحية، لكن يبدو أنها لم تتعاف بشكل نهائي، ومن ثم غيّبها الموت في الأيام الأولى من شهر يناير، بعد أن أصيبت بهبوط مفاجئ في الدورة الدموية، لتفقد السينما العربية، بغيابها، الأنموذج والمثال للفنان الذي يحترم نفسه وموهبته ومهنته، فيجبر الجميع على احترامه، والنظر بعين التبجيل والتوقير لمهنته، ما دعا مؤسسة الرئاسة إلى إصدار بيان تنعي فيه "قامة وقيمة فنية مبدعة أثرت الفن المصري بأعمالها الفنية الراقية، وأضفت السعادة على قلوب جموع المصريين والمواطنين العرب بإطلالتها الفنية وعطائها الممتد وأعمالها الإبداعية، وظلت رمزاً للفن المصري الأصيل وللالتزام بآدابه وأخلاقه"، وكان الرئيس عبدالفتاح السيسي قطع من قبل خطابه إلى الفنانين، وقت أن كان مرشحاً رئاسياً، بمجرد دخول فاتن حمامة إلى قاعة الاحتفال، وغادر مكانه على المنصة متجهاً إلى مكان جلوسها ليقدم لها التحية، في حين تسابق عدد كبير من الفنانين للتصوير معها والترحيب بها، بعد فترة طويلة غابت فيها عن الأضواء.

 اختلفت مع المخرج سعيد مرزوق، وسجلت هذا في كتابي، وهو مازال على قيد الحياة، عندما روى لي أنه توقف عن السعي وراء الجوائز، بعد ما قالت له فاتن حمامة إنها تضع الجوائز التي حصلت عليها في "درج مطبخها"، وأزعجتني إجابتها، وقلت له: إن موقفها فيه ازدراء لا يليق، ودافع عن وجهة نظرها، مؤكدا أنها كانت تؤمن بأن الفنان ينبغي ألا يعول كثيرا على الجوائز وحدها، وأن واجبه إمتاع الجمهور، وفي أعقاب رحيلها نشرت الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية صوراً لسيدة الشاشة العربية في منزلها بالتجمع الخامس، في منتجع القطامية، وكانت سعادتي كبيرة بأن عدداً من الجوائز التي تسلمتها في حياتها تتصدر الصورة، ما يعني أنها تحتل مكانة كبيرة في قلبها، ولم تضل الطريق أو ينتهي بها الأمر إلى "درج مطبخها"!

لم يُعرف عن "فاتن حمامة" أنها صاحبة مواقف سياسية، وأشيع أنها ابنة عائلة وفدية انحازت إلى الكتلة "السعدية" - نسبة إلى سعد زغلول – لكن كثيرين يجهلون أنها أقدمت، بعد إصدار قوانين يوليو الاشتراكية في عام 1961، على خطوة غير مسبوقة، عندما أرسلت برقية إلى غرفة صناعة السينما أعلنت من خلالها موافقتها على تخفيض أجرها في الفيلم الواحد من سبعة آلاف جنيه مصري إلى ثلاثة آلاف فقط، ما أوغر صدر رفاقها في الوسط الفني ضدها، لأنها تسببت في إحراجهم، وأجبرتهم على مجاراتها، والإعلان عن تخفيض أجورهم إن لم يكن بنفس النسبة، فعلى الأقل بنسبة قريبة منها، ولما سئلت عن السبب قالت: "مَن يؤمن بمبدأ فعليه أن يطبقه على نفسه"!