نحن وأحلام مستغانمي
لا أزال أتذكر رحلتي إلى الجزائر بمعية الوفد الثقافي الموفد من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، لإحياء الأسبوع الثقافي الكويتي هناك. كان ذلك منذ حوالي خمس سنوات مضت أو أكثر. كانت رحلة مرهقة ومؤلمة بالنسبة الي شخصياً دون البقية، حين غادرتْ الطائرة بدوني وتركتني في مطار روما بسبب غفلتي في تقدير فارق الوقت في محطة الترانزيت. وكان عليّ أن أنتظر أربع وعشرين ساعة كاملة على مقاعد المطار، انتظاراً للرحلة التالية المتوجهة إلى الجزائر.كان مكان إقامتنا في فندق منعزل وبعيد عن المدينة وصخب الحياة، فلم نعرف نكهة الشارع الجزائري وملامحه الفارقة. ولم نزر أي سوق أو حارة أو زقاق، فقد كان هناك شبه تحذير مبطن من عدم توفر الأمان للسائح أو الغريب الذي لا يعرف شخصية المكان ودواخله. فبقينا محبوسين في حدود الأمكنة التي تُقام فيها الفعاليات الثقافية والفندق. بل الأغرب من ذلك أن السيارات التي كانت تقلنا من الفندق وإليه كانت تنطلق بسرعة فائقة، مخفورة بدراجات نارية وحراسة، وذلك لتوفير مزيد من احتياطات السلامة للوفد الزائر.
عدنا من الجزائر ونحن لم نره ولم نعرفه! ولم يبقَ في الذاكرة غير وليمة (الكُسكُسي) باللحم والخضار التي أقيمت على شرفنا في إحدى المحميات على سفح جبل، وغير تلك الشجيرة التي غرسناها باسم الكويت في تلك المحمية البعيدة.ويبدو أن الجهل أصبح متبادلاً ومشروعاً، فأحلام مستغانمي الروائية الجزائرية التي تزور الكويت بدعوة من المجلس الوطني أيضاً، لم تحاول التعرّف على أمزجة الكويتيين ومهاراتهم الفائقة في مسألة "تعدد القراءات" بمفهومها النقدي، حتى تجنّب نفسها سوء الظن والتباس المعنى. فأتى استخدامها لمصطلح "عباية" في تغريدة لها قبل السفر إلى الكويت تقريرياً وبريئاً من وجهة نظرها، لكنه بدا مسيئاً واستعلائياً حسب منظور أهل الديرة. ولكلٍ رأي وهوى، ما دامت مساحات القول متاحة والحريات بلا سقف. لم تقف المسألة عند ذلك فيما يتعلق بأزمة التعرّف على الآخر، فقبل التغريدة بثلاثة أيام نشرت صحيفة القبس في صفحة "وجه في الأحداث" تعريفاً غير دقيق "إن لم نقل غير نزيه" بأحلام مستغانمي، تشم من ورائه رائحة الإثارة والاستفزاز! يقول محرر الصفحة: "وكما هو شائع فكتاباتها موجهة للمراهقين إلى حدّ كبير، نظراً لخلو رواياتها من التصدي للقضايا الكبرى والصراعات الفكرية. لم تعتمد على الإباحية بل يمكن القول إنها لجأت إلى الجنس الخفي". وأيضاً: "صاحبة شعارات كبيرة، أسلوبها يعتمد على خلق عبارات رنانة". وفي موضع آخر: "استحوذت على فئة الشباب؛ مراهقين ومراهقات، وهي شريحة تعاني جملة قيود وجدت فيها متنفساً لرغباتها".وحسناً فعل المحرر حين استعمل تعبير "وكما هو شائع"، لأن بحثه في سيرة الروائية وأعمالها لم يُستمدّ إلا من الشائعات، ويكاد المتأمل في تلك "المعلومات" يجزم أن المحرر لم يقرأ رواية واحدة لأحلام مستغانمي! وأن أحكامه فيها الكثير من الجهل وعدم المعرفة بأعمال الكاتبة. فرواياتها الثلاث الأولى تعتمد على التناصّ مع قضايا بلادها وتاريخها النضالي، ومراوحة تلك النضالات ما بين آمال التحرر وخيبات الفساد والوصولية التي آلت إليها في نهاية المطاف. وكانت "قسنطينة" المدينة الجزائرية ذات الجسور تشكّل الثيمة الأكثر حضوراً في الروايات، والأبلغ ارتباطاً بالجذور والهوية الوطنية. بيد أن مسلسل الجهل المتبادل بالآخر يبقى مستمراً. إذ يبدو أن أحلام مستغانمي لم تكلف نفسها – وهي بصدد القدوم إلى الكويت – مؤونة استعادة شريط إحداثيات زمن الغزو الصدامي، ولم تقرأ الذاكرة الكويتية المتورّمة بالجروح! ولعلها أيضاً نسيت أو راهنت على النسيان والغفلة، حين اهتزّت لديها الرؤية وتغبّشتْ – ذات كتابة- فيما يتعلق بضرورة تبني الأديب للقضايا الإنسانية ومناهضته للظلم والطغيان والدكتاتورية.في رأيي أن كل ما دار من لغط حول زيارة الروائية الجزائرية للكويت، هو نتيجة من نتائج الجهل المتبادل بين الطرفين وقلة المعرفة بالآخر. ويبقى الأمل الأخير منوطاً بتلك الشجيرة التي غرسناها باسم الكويت على سفح جبل في الجزائر، أن تستطيل أغصانها ذات ربيع وتزهر.