قبل أيام غيّب الموت أحد أهم شعراء العامية في الوطن العربي وأغزرهم عطاء، الشاعر عبدالرحمن الأبنودي.

Ad

شاعر الحنطة وماء النيل وأحلام الناس الطيبين، شاعر كل ما يُهدم وما يُبنى، وكل ما يخضرّ من ورق الأماني في شجرة التمني، وما تصفعه يد الخريف ليسقط منها، تماهى شعراً مع كل تفاصيل حياته بدائرتيها الخاصة والعامة بعمق مدهش، حتى بدا وكأنه لم يعش سبعة وسبعين عاماً فقط، وإنما عاش أكثر من ذلك بكثير لتتسع لحياة ثريّة وغنيّة بالتجارب الإنسانية والحياة التي ضمّنها هذا النتاج الإبداعي الضخم الزاخر بالجمال، أكثر من 22 مؤلفاً أدبياً، والعديد من الأغاني التي تغنّى بها كبار مطربي العالم العربي، وكتب السيناريو والحوار لأكثر من فيلم سينمائي، وألّف مسلسلا تلفزيونيا، وكتب الكثير من أغاني المسلسلات الشهيرة، كل هذا العطاء الوافر جعله يستحق جائزة الدولة التقديرية، ليكون بذلك أول شاعر عامي في مصر يحصل على هذه الجائزة الرفيعة تقديراً لعطائه المتميز.

عبدالرحمن الأبنودي ليس فقط أول شاعر عامي يحصل على تلك الجائزة التقديريرية، وإنما هو أول شاعر عامي "يعولم" قريته الصغيرة، فقد قدم من أقصى صعيد مصر حاملا معه تلك القرية لا من خلال اسمه فقط، ولكن من خلال كل ما خطّه شعراً وعاشه خلقاً، وعندما تسأله عن مكان تلك القرية بالضبط يجيبك على الفور مبتسماً: مش موجودة ع الخريطة يا خال! وبالرغم من عدم وجودها على الخريطة كما كان يزعم، فإن قصائده سافرت بها إلى أقاصي الأرض لتضعها في وسط خريطة الشعر وخريطة القلوب، حفظنا عن ظهر قلب لهجة ساكنيها، وغيطانها، وترعاتها، وأسماء قاطنيها نفراً نفراً، وربطتنا ببعضهم مشاعر عاطفية، عايشنا يومياتهم، وعرفنا كيفية تعاطيهم مع العالم الخارجي الذي يتعدى عالمهم الصغير والمحدود، عرفنا كل شيء عن تلك القرية التي لا تُذكر في خريطة مصر، أكثر مما عرفنا عن بعض مدنها الكبرى بفضل شعر عبدالرحمن الأبنودي، بل وأحببناها من محبتنا له.

كانت أبنود حاضرة في قصائده بكل تفاصيل يومياتها التي لا تختلف عن أي قرية في ذلك الجزء الجغرافي من مصر إلا بأسماء ساكنيها، إلاّ أن شاعراً بحجم عبدالرحمن الأبنودي عولمها! تلك القرية المنسية من الخرائط، والمحفوظة في قلبه وفي سلوكه الحياتي وكأنما هو لم يغادرها قطّ، أصبحت على خريطة الأدب يتغنى بلهجتها كل من ردّد مع عبدالحليم: أنا كل ما أقول التوبه، والهوى هوايا أو ردّد مع فايزة أحمد: يمه يا هواي يمه، أو مع نجاة عيون القلب، أو غنى مع شادية: قالي الوداع، أما أكثر ما حضرت اللهجة الأبنودية فكانت مع الفنان محمد رشدي في أغاني مثل: تحت الشجر يا وهيبه وعدويه والكثير الكثير من الأغاني لكثير من مطربين آخرين أمثال محمد منير والذين حملت لنا أصواتهم جميعاً قرية أبنود، لتسكنها في ذاكرتنا رغماً عن كبرياء الخرائط.

فإذا أردنا أن نعرف عظمة الخال عبدالرحمن الشعرية، يكفي أن نعرف كيف استطاع شخص بمفرده أن يجعل قرية لا تذكرها الخرائط، تتربع على جغرافيا الفن والأدب.