رَمبرانت: الأعمال الأخيرة
على أثر معرض "تيرنر في سنواته الأخيرة" (سبق أن عرضت له) زرت معرض "رَمبرانت: الأعمال المتأخرة" في "الغاليري الوطني"، محتفياً بالفنان الذي أحب، وبرغبة المقارنة بين السنوات الأخيرة لفنانَيْن على هذا القدر من النضج. فإذا كنتُ مولعاً بالضوء الذي يعرّي الحياة، ويغلفها بضباب الغموض في آن واحد لدى تيرنر، فأنا مولعٌ بلمسة الفرشاة التي لا تُضاهى وهي تبعث الأسرار من الأوجه والهيئات التي يرسمها رامبرانت. وإذا كان تيرنر مُبتلى بطبيعة شخصية غريزية فطرية أربكت سنواته الأخيرة، فإن رامبرانت كان مبتلى فيها بقدَرٍ ظالم لا يرحم.معرض الفنان الهولندي رَمْبرانت (1606 - 1696) يضم قرابةَ تسعين لوحة زيتية وطباعية تقتصر على السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياته الفنية، وهي سنوات كالحة جاءت بعد عز. سنواتٌ صحبتْ، مع انحدارها في العافية، كوارثَ شخصية بلّلت فرشاةَ الفنان الكبير بالعرق والدموع والدماء. ففي 1654 أُدينت زوجتُه هيندريكجي عرفياً بتهمة الزنا لحياتها معه دون زواج شرعي، فانفض عنه رُعاة فنه. وبفعل تبذيره المعهود أفلس بعد عامين، فعرض للمزاد العلني أعماله ومطبعته، ودفعه الفقر حتى لبيع قطعة الأرض التي أقام فيها قبر زوجته الأولى ساسكيا. ولم تكفّ قبضةُ القدر عن الضرب حين قضت على زوجته هندريكجي بالطاعون عام 1663، ثم على ابنه المحبب تيتوس في 1668، حتى وجدته مهجوراً منقطعاً للوحدة، لا أمل له في إغاثة من فن، لأن لوحته انخفضت مكانتُها بين المجايلين بفعل غلبة الظلمة فيها، وضربات فرشاة خشنة لا عهد لمتذوقي الفن بها.
ولكن المدهش أن رَمبرانت، في غمرةِ سوءِ الطالع، صار أكثر نتاجاً فنياً، بل أنضج في التقنية الجديدة المبتكرة. حتى أن بعض لوحات هذه المرحلة صارت اليوم أهم نتاجه وأكثره شهرةً في العالم. والرائع في هذا المعرض أنه جاء بعينات مهمة من هذه المرحلة مستعارة من متاحف العالم. وقف فان غوخ مرة أمام لوحة "العروس اليهودية" بالغة الرقة قائلاً: "يسرني أن أُضحي بعشر سنوات من حياتي من أجل جلسة لأسبوعين، مع كسرة جافة من الخبز، أمام هذه اللوحة". شخصياً لستُ على استعداد لتقديم هذه التضحية، لأن اللوحة مُعلقة لكل راغب في "متحف الدولة" في أمستردام، وأستطيع زيارتها على هواي. ولكن كلمات فان غوخ تعبر عن كمال التأليف في هذه الصورة، وكمال التعبير معاً. قال عنها أحد كتاب سيرة الفنان: "إنها واحدة من أعظم لقطات التعبير عن الانصهار الرقيق بين الحب الروحي والجسدي في تاريخ الفن". والانصهار هذا يصح على لوحة أخرى هي "باثشيبا في حمامها"، ولكنه انصهار بين الشهوانية وبين التعاطف المُشفق. لأن قصة باثشيبا في التوراة تستدعي ذلك. فهي حسناء متزوجة، ولكن عين الملك داود وقعت عليها وهي في حمامها، فأعجبته حتى أغواها. ولأنها حملت منه، وأراد أن يُخفي الأمر ويتزوجها، أبعد زوجها في حرب بعيدة. رامبرانت كشف عن حالتيْ الفتنةِ في جسد المرأة، والإشفاقِ في قلب المشاهد.لوحةٌ كبيرة أخرى مثيرة هي "مؤامرة كلاوديوس سيفيليس". رسمها رَمبرانت بطلب من بلدية أمستردام لعرضها في مناسبة التحرر من التسلط الاسباني، وكانت أكبر حجماً بكثير (5X5 أمتار)، إلا أن البلدية أعادتها له، ولكي ييسر بيعها قطعها إلى الربع. اللوحة تصور اجتماع الزعيم كلاوديوس (من القرن الأول الميلادي)، وكان أعور، بمن يرغب مثله في الانتفاضة على التسلط الروماني في بلده. ويُقال إن البلدية أعادت اللوحة لأن رامبرانت ترك عين البطل الرمز بعورها.كل واحدة من اللوحات الأساسية تحتاج إلى وقفة فان غوخ. شعيراتُ الفرشاة بين الأصابع المتعبة للفنان الشيخ تكتشف بيسر مفاتيح بلوغ المشاعر الدفينة. ولعلها حين تقرب عيون البورتريت تصبح شعيراتٍ مُلْهَمةً. فلك أن تتابعها في كل خلية من خلايا العين، المُثخة بالأسى، أو الرطبة بالدمع الوشيك. تلاميذه قالوا عنه إنه حين كان يُقبل على رسم بورتريت لشخص، كان يقف أمام المرآة مثل ممثل، ليتمثل الآخر عبر اللعب بسيماء وجهه هو.