بين ناورو والنرويج تقف الكويت أمام النموذجين، تخشى الأول ولا تتطلع للثاني بعد سنوات من الفوائض المالية المتراكمة ضاعت بلا تنويع للاقتصاد ولا فتح لقنوات الاستثمار، بل وسط فشل لافت في كل المشاريع الكبرى التي تبنتها الدولة كالتحول إلى مركز تجاري ومالي، وكذلك الأمر لخطط التنمية المتتالية.

Ad

عندما نفكر في مستقبل الكويت يبرز نموذجان علينا أن نعمل مقاربة لأحدهما... أولهما سلبي للغاية؛ «جزيرة ناورو»، والثاني إيجابي جدا «النرويج».

بين النموذجين نستكشف كيف تعاملت كل من الدولتين مع الثروة الطبيعية في اقتصاديهما، بجعلها مصدرا داعما أو مدمرا للمستقبل، ليقدما لنا في الكويت دروسا عن كيفية التعامل مع النفط الذي نعتمد عليه بشكل وحيد في الإنفاق والميزانية وحتى في تراكم صندوق الاجيال للمستقبل.

جزيرة ناورو الواقعة في المحيط الهادي قرب جزر هاواي كانت من أغنى دول العالم قبل نحو 30 عاما، بفضل الثروة المفاجئة الناتجة من مناجم الفوسفات، فعاش الشعب فيها في حالة استثنائية من الترف والإنفاق الاستهلاكي بلا ضرائب ولا رسوم، وتنامت عمليات شراء الكماليات كاليخوت والسيارات الفارهة بين سكان الجزيرة.

فوائض وإنفاق

لم تستفد «ناورو» من فوائضها المتراكمة في تطوير البنية التحتية للجزيرة أو تعزيز البيئة الاستثمارية، حتى أوشك الفوسفات على النضوب، فتحولت الحال تماما، وبعد أن كانت نسبة العاملين في الحكومة تصل الى 95 في المئة باتت نسبة البطالة تناهز 90 في المئة، ولم يعد سكان الجزيرة قادرين على تدبير نفقات البنزين لليخوت والسيارات، بل غدت «ناورو» واحدة من شبكات غسل الأموال والتهرب الضريبي، وخصوصا لرجال العصابات الروسية.

في المقابل تبرز النرويج التي تم اكتشاف كميات كبيرة فيها من النفط والغاز الطبيعي في ستينيات القرن الماضي، فكان القرار حاسما وواضحا في تحويل إيرادات النفط كلها الى صندوق التقاعد النرويجي «السيادي»، الذي يعتبر وفق مؤسسة (SWF Institute) المتخصصة في دراسة استثمارات الحكومات والصناديق السيادية أكبر الصناديق السيادية في العالم بـ863 مليار دولار بناء على معلومات حكومية رسمية (مع ملاحظة أنه لا يوجد إفصاح رسمي لقيمة الصندوق السيادي الكويتي ولا لمكوناته).

نفط ومصروفات

لا تنفق النرويج من إيرادات النفط، لأن اقتصادها حقيقي وتشغيلي، فمصروفاتها تعتمد على إيرادات الجمارك وصيد الأسماك والزراعة، ومع ذلك لا يمكن أن تصدر قائمة لأكثر دول العالم رفاهية إلا وتكون النرويج في صدارتها، مع الأخذ في الاعتبار المستويات المتقدمة في التعليم والصحة العامة والعمل والرعاية الاجتماعية وغيرها.

بين ناورو والنرويج تقف الكويت أمام النموذجين؛ تخشى الأول ولا تتطلع للثاني، فلانزال نعتمد على النفط بنسبة 93 في المئة، في حين تبلغ قوة العمل في القطاع العام والنفطي نحو 90 في المئة، بما يستهلك أكثر من 50 في المئة من مصروفات الميزانية يقابل هذه المؤشرات تضييع سنوات من الفوائض المالية المتراكمة بلا تنويع للاقتصاد ولا فتح لقنوات الاستثمار ولا حتى خفض للنفقات أو محاولة ترشيد الدعم لمستحقيه، بل وسط فشل لافت في كل المشاريع الكبرى التي تبنتها الدولة كالتحول مركزا تجاريا وماليا، وكذلك الأمر لخطط التنمية المتتالية.

ربما تكون هناك صعوبات في تطبيق أو مقاربة نموذج النرويج، لكن الفرصة لاتزال مواتية لتجنب مصير ناورو، وذلك بإعادة هيكلة الاقتصاد وتنمية الإيرادات غير النفطية، وتوفير فرص عمل خارج القطاع العام، فضلا عن المشروعات الصغيرة والمتوسطة على أساس إنتاجي وإعادة ربط المشاريع والمناقصات بأهداف الاقتصاد وتطبيق العديد من الدراسات والتوصيات المتراكمة منذ سنوات، والتي تدعو لـ»نفضة» تغيّر شكل وجوهر الاقتصاد المحلي.

دولة بلا مشروع

لا يمكن أن تظل الكويت هكذا دولة بلا مشروع، فهي أحوج ما تكون لمن ينقذها من السير في اتجاه نموذج ناورو.

وهنا يبرز التساؤل: ماذا سنفعل ليس إن نضب النفط، بل استمر ضعف الطلب عليه عالميا ليتراجع سعره أكثر فأكثر؟ فهذا السؤال منطقي جدا في ظل أوضاع أسواق الطاقة... فهل إن حدث تدهور جديد في الأسواق سنجد سعر البرميل يصل الى 20 دولارا مثلا؟ وما العمل كلما طال أمد التدهور؟

هذه الأسئلة يجب أن تكون الإجابة عنها هي همنا الأساسي، ففيها ربما المدخل لإيجاد الحلول و»صحوة النائم» من مخاطر الوضع الحالي الذي يمكن أن تعصف به أي هزة في أسواق النفط.

عندما تتراجع الفوائض ونتجه الى تحقيق العجز، لا يمكن أن يكون العلاج من «اقتطاع اللحم الحي» كالسحب من احتياطي الدولة العام أو الاقتراض من البنوك التجارية، فهذه حلول ترقيعية ضررها المستقبلي أكثر من فائدتها الحالية، فالإنفاق الباهظ يستوجب البدء بإجراءات فعلية على الآماد القصيرة والمتوسطة والطويلة، لا مجرد توجيهات يعلم من يتابع الإجراءات الحكومية انها تنتهي مع انتهاء اجتماع مجلس الوزراء.

فما نحتاج إليه اليوم مثلا هو اتخاذ قرار بشأن استهلاك الطاقة الكهربائية والمائية التي تكلف الدولة نحو 3 مليارات دينار سنويا، بما يوازي 13 في المئة من إجمالي الميزانية، بل إصدار ميزانية لثلاث الى خمس سنوات لا يمكن زيادتها تحت أي ظرف، حتى وإن تحسنت أسعار النفط، والأهم من هذا كله العمل على أن يكون رفع نسبة الإيرادات غير النفطية التي لا تزيد حاليا على 7 الى 8 في المئة الى مستويات تبلغ 30 في المئة، بحلول 5 سنوات قادمة لنتجاوز المخاطر الحالية، ولو إلى وقت أبعد.

نموذجا ناورو والنرويج ماثلان أمامنا، وليس لنا أن نختار بينهما، لكن على الأقل متاح أن نبتعد عن نموذج ناورو الكارثي، حتى ولو لم نحقق نموذج النرويج الحالم مقارنة بإمكاناتنا الإدارية على الأقل.