«إخوان» شيكاغو
في الأسبوع الماضي تدفق آلاف المصريين على عدد من البنوك الوطنية لشراء شهادات استثمار تمويل مشروع "قناة السويس" الجديد، الذي أعلنه الرئيس السيسي.وفق أحدث البيانات الصادرة عن البنك المركزي المصري، فإن مجموع ما اشترى به المصريون تلك الشهادات قارب الأربعين مليار جنيه (الدولار الأميركي 7.17 جنيهات)، وهو الأمر الذي يعكس بوضوح ثقة بالنظام القائم، ودعماً للسيسي، وأملاً في المستقبل.
لم تُحل المشكلات الطاحنة التي تعانيها مصر في المئة يوم الأولى من حكم السيسي بالطبع، لكن الأمن تحسن بشكل واضح، وباتت حركة المرور أكثر انسيابية، وبدأت عجلة الاقتصاد بالتحرك، وتم إحراز تقدم في ملفات خارجية عديدة، وتكرس اليقين في عودة الدولة قوية وقادرة.سيكون من الصعب جداً دحض فكرة استقرار النظام، وتمتعه بدعم وشعبية واضحين، لكن تنظيم "الإخوان" يفكر بطريقة أخرى، ومن ذلك أن أهم الأخبار التي صدرت عن هذا التنظيم خلال الأسبوع نفسه تتعلق بتوجيهات من "قيادة التنظيم الدولي" في تركيا للمصريين في الداخل بـ"عدم التعامل مع الدولة أو النظام لأنه يفتقد الشرعية"، وبتنظيم حركة تمرد جماهيرية تحت اسم "ضنك" لإطلاق ثورة جديدة حُدد لها اليوم التاسع من الشهر الجاري... وأخيراً، وليس آخراً، إجراء انتخابات لإحلال قادة جدد للتنظيم محل هؤلاء المسجونين أو الهاربين.لقد صدم المصريون "الإخوان" لأنهم اشتروا شهادات "قناة السويس" بعشرات المليارات في مواجهة دعوتهم لمقاطعة النظام والدولة، ولم يخرج في "ثورة ضنك" المزعومة سوى العشرات من الناشطين، الذين انخرطوا في اشتباكات مع الأهالي قبل أن تصل إليهم قوات الأمن.يبدو أن "الإخوان" ما زالوا يعيشون في حالة "إنكار" تامة لكل ما جرى اعتباراً من 30 يونيو من العام الماضي، واستناداً إلى هذا الإنكار فإنهم يرسمون عالماً خيالياً ويعيشون داخله؛ وهو أمر يحتاج "تحليلاً نفسياً" أكثر مما يحتاج "تحليلاً سياسياً".ماذا يقول علماء النفس في مثل هذه الحالة؟يرى باحثو علم النفس الاجتماعي أن جماعات مصالح كثيرة تشكلت عبر التاريخ بزعم "البحث عن معنى أعلى"، ويقول هؤلاء الباحثون إن تلك الجماعات تعتمد آليات نفسية وأساليب إقناعية فعالة، حتى تضمن انضمام "الأعضاء"، وبقاءهم، بصرف النظر عن مدى أخلاقية "المعنى الأعلى" وصدقه وسلامة الأساليب المنتهجة لإدراكه في حال كان موجوداً.يسجل التاريخ الكثير من الأمثلة على تلك الجماعات؛ ومنها "الطائفة الجبلية" في تركيا في القرن الثاني، و"الحشاشين" في فارس وسورية في القرن الحادي عشر، وطائفة "تجديد التعميد" في هولندا في القرن السادس عشر، و"السبتيين" في أزمير في القرن السابع عشر، و"فرقة يوم الحساب" في شيكاغو في القرن الماضي.استطاع فريق بحثي رفيع المستوى من جامعة "مينيسوتا"، بقيادة البروفيسور "ليون فيستنغر"، أن يتنكر ويخترق "فرقة يوم الحساب"، ويعيش بين الجماعة كجزء منها، بغرض دراسة أفكار أعضائها وسلوكياتهم؛ وهو الفريق الذي خرج بنتائج مبهرة حقاً.كانت فكرة "فرقة يوم الحساب" الرئيسة تقوم على أن أعضاء الجماعة "أطهار وأبرار وربانيون وأعلى أخلاقياً ودينياً من الآخرين"، ولذلك فإن ربهم سيضرب العالم بطوفان يبدأ من السواحل الغربية للولايات المتحدة، ويمتد ليغرق الكرة الأرضية، لكنه سيخصهم بأطباق طائرة، ستأتي في منتصف ليلة محددة لتلتقطهم، وتأخذهم إلى الخلاص، ليعيشوا في عالم أفضل.يقول فريق "مينيسوتا" إن الجماعة كانت تقوم على نظام "السمع والطاعة"، وإن قادتها كانوا يزعمون أنهم "يتلقون كتابة ربانية على كف إحدى العضوات تحمل الأوامر والتعليمات التي يجب اتباعها بصرامة"، وأن أعضاء الجماعة كانوا أسرى تماماً لكل فكرة أو أمر يأتيهم من هيئة قيادية تضم سيدة ورجلين.على أي حال؛ فقد أفادت "الكتابة الربانية" المزعومة، بحسب ما قالت الهيئة القيادية للجماعة، أنه تم تحديد يوم الطوفان، ومن ثم هبوط الأطباق الطائرة، والتقاط أفراد الجماعة، وأن هذا سيحدث عند منتصف ليلة اليوم المحدد تماماً، وتم تزويد الأعضاء كذلك ببعض الطقوس والممارسات التي يجب الالتزام بها لضمان "عملية التقاط ناجحة". يقول فريق "مينيسوتا" إن أفراد الجماعة أمضوا اليوم المحدد لوصولهم إلى الخلاص في حالة من التفاؤل والشغف والسعادة البالغة، وإنهم حرصوا على قراءة "نصوص ربانية" تم تزويدهم بها من القادة.يوضح الفريق العلمي أن أفراد الجماعة كانوا ينتمون إلى طبقات اجتماعية مختلفة، وأن معظمهم ترك وراءه أسراً ووظائف أو أعمالاً تجارية، وأن بعضهم بدد مدخراته، أو أنفقها على أعضاء الجماعة الفقراء والمشردين، وأن البعض الآخر بات متهماً بالجنون من جانب أبنائه، كما كان بينهم من تلاحقه الشرطة للتحقيق معه في اتهامات جنائية.ينقل "روبرت سيالديني"، في كتابه "التأثير"Influence ، عن فريق "مينيسوتا" قوله إن أعضاء الجماعة ظلوا منتظرين لأربع ساعات كاملة بعد الموعد المحدد للطوفان وقدوم الأطباق الطائرة دون جدوى، وأن بعضهم أخذ يصرخ بمرارة موجهاً نظراته الحادة إلى قادة الجماعة: "لقد فقدت كل أموالي"، و"ضاعت حياتي"، و"إنها إذاً كذبة كبيرة"، في حين راح آخرون يقترحون أنه ربما كان هناك خطأ في قراءة نص "الكتابة الربانية"، وأن اليوم المحدد للطوفان لم يحن بعد.كانت الأجواء عصيبة للغاية، وانتاب أعضاء الجماعة شعور مركب من اليأس والذهول والإحباط الشديد، وراح البعض يضرب رأسه بجدار المستودع الذي تجمعوا فيه انتظاراً للأطباق الطائرة، في حين توجه آخرون لمعاتبة بعض قادة الجماعة.يثني فريق "مينيسوتا" على "سرعة بديهة" بعض هؤلاء القادة ثناءً كبيراً، ويطعن في عقل أفراد الجماعة "المأفونين" طعناً مبطناً؛ إذ يقول إن السيدة الوحيدة العضوة في الهيئة القيادية سارعت إلى القول إن "رسالة ربانية" ظهرت على كفها، واستدعت على الفور العضو القيادي المخول بقراءة مثل تلك الرسائل، ليخرج الاثنان بعد دقائق بأخبار جديدة للمجموعة التي كادت تفقد عقلها، وإيمانها، ووحدتها، بل حياة أفرادها."الرسالة الربانية" المزعومة تقول إن رب الجماعة قرر العفو عن البشرية بسبب إخلاصها وإيمان أعضائها،لكن الرسالة تشير إلى أن ذلك العفو مشروط ببقاء الجماعة متماسكة وملتزمة بالطقوس الإيمانية، وأن موعداً جديداً لـ "الخلاص" سيتم تحديده في وقت لاحق بناء على التطورات.يستغرب فريق "مينيسوتا" كثيراً لأن عدداً كبيراً من أعضاء الجماعة الذين فقدوا أموالهم وحياتهم واعتبارهم، واكتشفوا أنهم تعرضوا لخدعة كبيرة من أفاكين أدعياء، لم يفتكوا بالهيئة القيادية، ولم يوجهوا لها اتهامات بالكذب والاحتيال، ولم يتركوا الجماعة ويثوبوا إلى رشدهم، بل ظلوا مرابطين معها في انتظار "الأطباق الطائرة" التي ستحملهم إلى "المعنى الأعلى" الذي لن يأتي أبداً بطبيعة الحال.لكن سيالديني لا يستغرب أبداً؛ إذ يرى أن سلوك أعضاء الجماعة مفهوم؛ لأن الأفراد المنقادين الذين يكتشفون تورطهم بالكامل في مستنقع عفن، يفضلون عادة الاستمرار "ضمن القطيع" حتى لو كان سيأخذهم إلى حتفهم، عن أن ينشقوا ويصارحوا أنفسهم بأنهم كانوا "بلهاء ومخدوعين".يجب أن نفعل نحن ما فعله سيالديني تماماً... علينا أن نتفهم دوافع أفراد تنظيم "الإخوان". إن هؤلاء الأفراد ينتظرون عودة مرسي إلى الرئاسة، ويدعون إلى ثورة شعبية ضد السيسي لإسقاط حكمه، ويجرون انتخابات داخلية جديدة، ويطالبون المصريين بعدم التعامل مع النظام القائم.إن أفراد التنظيم لم يتابعوا أخبار شراء شهادات "قناة السويس"، ولم يعلموا أن "ثورة ضنك" لم يخرج فيها سوى العشرات، ولم يدركوا أن تنظيمهم انهار، وها هم يتحدثون ليلاً نهاراً عن "دحر الانقلاب"، و"عودة الشرعية"، و"مرسي الذي سيعود رئيساً إلى القصر".سيفضل بعض هؤلاء الأفراد أن يبقى مخدوعاً على أن يتصالح مع الحقيقة، وسيظل منتظراً "الطوفان" مهما تأخر عن المجيء.* كاتب مصري