لعله الضجر وحده الذي أطلق هذه الحكايات التي تشبه أصحابها، وتشبه بيوتهم (المتدثرة بشحوبها)، المرمية على مشارف الخط السريع ، المسكونة بالوحشة والتوجس، المحاطة (ببراميل القمامة) و(العبارات البذيئة على أسوار المرافق العمومية).
حيّ متراصة بيوته التي بنيت على عجل ورثاثة، ليسكنها إناس ليسوا أحسن حالاً من بيوتهم. وما حكاياتهم الاعتيادية سوى محاولة من (فتاة مغمورة) تجتهد أن تدون ما تعرفه عن جيرانها بيتاً بيتاً، حتى استكملت إحدى عشرة حكاية، ثم أجلت حكايتها هي للغد! هكذا تبدأ باسمة العنزي مجموعتها القصصية (يُغلق الباب على ضجر)، لتجعل من تلك الفتاة المغمورة راوية لأسرار البيوت التي تشيح بوجهها نحو ما يشبه الحياة أو ما يشبه الموات. وهي وإن كانت قد بدأت أول حكاية (بجنية الفرح) التي توزع عنايتها وهباتها القلبية والإنسانية على سكان الحي ماسحة بذلك بعضاً من همومهم ووجعهم اليومي، إلا أن هذا الفعل لم يكن سوى رفة حلم سرعان ما تبددها قسوة الواقع وأكدار العيش. سلسلة من الهموم تتنوع بين المرض والقسوة والتخلي، وذل الإنسان أمام ضعفه أو فقره أو ضعته أو خضوعه لظروف التنشئة والتقاليد ومنغصات الواقع، اضافة الى ما يخلقه هذا الواقع من نماذج شائهة ونفسيات مريضة وآمال محطمة. وما كانت هذه النماذج ببعيدة عن الصدق والملامسة الحميمة دون أن تثقلها صنعة الخيال على مستوى الحكاية أو صنعة الزركشة اللفظية على مستوى اللغة. أما الشخصيات فقد جاءت أليفة وممن نعرف من غمار الناس، منها شخصية المسن المبتلى بالمرض والعجز وصعوبة التواصل مع الأصحاء، ومنها المرأة الراسفة في عبودية زواج شائه أو عبودية الخضوع للعائلة والتقاليد البالية، ومنها الشخصية المنكسرة تحت وطأة الشعور بضعة الانتماء إلى أصل أو هيئة أو اسم لا سوق له في عالم المظاهر والوجاهة (كعيد معتوق) أو (نثّاج). ومنها شخصية (بو عبث) التي أبدعت الكاتبة في تحليل ما يعاني من اختلال وعدوانية وسيكوباثية، وانطواء على تبجح وادّعاء وخبث ووصولية سافرة، تؤهله مجتمعة إلى أرفع المناصب! وما أكثر أمثال هذا النموذج بين ظهرانينا! بيد أن القارئ وهو يتعرف على هذه الشخصيات بتشكيلاتها النفسية، ويخوض غمار تلك الحكايات اللاذعة، لا يفوته ذلك الخيط الخفي الرابط بين ماهية الحي برثاثته وصوره الكالحة الموحشة وارتمائه على (أرض الأطراف)، وبين تشَكل سكانه من عجينة لا تقل رثاثة، منطوين على تلك الندوب والعاهات الاجتماعية والنفسية بصمت واستسلام، وكأني بالكاتبة تدين هذا الوضع المجحف، وتشفق عليه، وتشير إلى جذوره وأسبابه، دون أن تتورط بخطابية مجانية لا دواعي فنية لها. وأمام هذا المشهد للبطولة الجماعية التي يمثلها سكان الحي بأدوائهم وهمومهم وعاهاتهم، لا يملك القارئ إلا أن يلوي عنقه باستسلام كما كان يفعل (حنظلة) في رسوم ناجي العلي الكاريكاتيرية، وهو يعقد ذراعيه إلى الخلف، ثم يشخص أمامه بلا حيلة، ولكن بقدر كبير من الفهم ونفاذ الرؤية. نتمنى ممن يقرأ هذه المجموعة القصصية أن يكون ذلك (القارئ الاستثنائي) الذي عنته الكاتبة وتطلعت إليه حين قالت: «وحدهم المغمورون بماء الحكمة قادرون على فكّ رموز الأحجية، هم ولا أحد سواهم الجديرون ببوحنا ورؤية أسرارنا، وقد أخرجناها من علب الاختفاء المخملية». ورغم أن (حنظلة) لم يكن يقدم حلولاً لما يشهده من هموم وأوجاع إنسانية و(سياسية)، فإنه كان يتنكب أضعف الإيمان، وهو محاولة التغيير بالإيماء والإشارة. فلعل الطريق يبدأ من هنا.
توابل - ثقافات
تغلق بابها على ضجر
12-10-2014