تعلّم أن تنسى!

نشر في 22-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 22-11-2014 | 00:01
No Image Caption
معلومٌ أنّ لآلام الماضي والمظالم القديمة طريقةً لإبقائنا دوماً قيد مساراتنا، غبر قادرين على المضي قدماً أو اختبار الفرح. وقد يتطلّب تخطّي الماضي إعادة تأهيل جذرية. إليك الطريقة.

أمعن النظر. قد يعكّر ظلٌّ طويل صفو مستقبلك، وما هذا الظلّ إلّا ما تسبّب فيه الألم الذي أصابك في ماضيك، ألمٌ تمثّل في غياب أحد الوالدين، أو خيانة الشريك السابق أو إهانة وجّهها إليك الرئيس في العمل.

ربّما تكون أسير مكانٍ ما بفعل خياراتٍ غير موفقة سبق أن اتّخذتها، كالوظيفة التي وجب أن تستقيل منها في وقتٍ سابق، وأسرار العلاقات التي تبقيها طيّ الكتمان وزيارة الطبيب التي أجّلتها.

من بالغ السهولة حتى الدهشة أن تمسي أسير ظلمة الذكريات السيئة. إنّها رمال عاطفية مغرقة تهبط بنفسيتك بقوة.

يوقع بنا الماضي أحياناً في شرخ امتدادٍ غير مضبوطٍ للفوضى يأتينا من كلّ حدبٍ وصوب، فيطيح كلّ ما هو جديد وممكن. أو يستولي الماضي نفسه على كلّ أحلام اليقظة الخاصة بك، فيعيد تذكيرك بقلقٍ شديد بخساراتك الدفينة، أو المظالم السالفة التي تعرّضت لها، أو الذنوب المزعجة في شأن الأخ أو الأخت الذي عذّبته أو الصديق الذي خذلته.

ربّما يغتذي من دعوى قضائية مع شريكك السابق، على الرغم من مرور عقدٍ من الزمن على طلاقك، أو من غضب عارم تجاه أحد الوالدين الذي قلّل من شأنك أو تجاه نفسك لأنّك صدّقت ذات يومٍ أكاذيب أحدهم.

الرغبة الملحّة في تصحيح الأخطاء التي يمكن محوها، وإعادة النظر في الألم الذي وجب أن تتمتّع بحمايةٍ منه، والتعلّق بحبّ غاب عنك، والاستغراق في التفكير، وأخذ الثأر، هذه كلّها ميولٌ طبيعية، إلى حدٍّ ما ووقتٍ ما.

انتهى الوقت

من الأمور البديهية في علم النفس أنّنا اليوم بعضٌ من إعادة تركيبٍ لما كانت عليه أيّامنا التي ولّت. لا بدّ إذاً لنا أن نلقي غالباً نظرةً إلى الوراء، إذا ما شئنا أن نمضي قدماً بحكمة. لكن ثمة مرحلة ما يمسي فيها تقدير الماضي وتقييمه أشبه بالعلكة التي تلتصق بحذاء نفسيتك، فتبقيك أسير مكانك وتعرقل مضيّك قدماً. فلا تختفي، مثلها مثل العلكة، بمفردها، وتتطلّب أن تنزعها بنفسك.

لا تكمن القوّة في تخطّي الماضي بشكلٍ أساسي في طبيعة الأحداث نفسها. هذه طبعاً مهمّة، لكنّ المهمّ أيضاً هو الخطوات إلى الأمام التي يبدي المرء استعداده لاتّخاذها والمجهود الذي يبدي استعداداً لبذلها حتى يرفع هذه الصخرة العاطفية أو تلك، ويرمي بها بعيداً.

ويتضمّن التحرّر من هذا القيد تذكّر الجرح ومقاربته مجدّداً من زاوية مختلفة وأكثر تعاطفاً. وقد يعني المضي قدماً إعادة تشكيل علاقة حتى تغدو فيها أقلّ عطاءً وأكثر واقعيةً.

لكنّه قلّما يعني قطع هذه العلاقات. التغيير هو المطلوب لا البتر، ويتطلّب التحرّر من هذا القيد أن تكون صادقاً مع نفسك في شأن المشاعر التي تخالجك، أي الغضب، أو الحزن أو القلق، وإن تمنيّت ألّا تكون كذلك، لكن مع الإصرار على احتمال أنّك ستشعر يوماً ما بتحسّن.

هل ثمة أمر ما لا تستطيع تخطّيه؟ أجل وكلا. قد لا تتخطّاه، لكنّك ستجد له مكاناً آخر تضعه فيه. قد لا تنساه، لكنّه لا يعود يشغل بالك. قد لا تزعم أنّه لم يكن أمراً سيئاً، لكنّك تشعر بالقدرة على دمل الجرح. نحن لا نتخطّى الماضي، بل نكتفي بتجاوزه.

العمل الافتتاحي

يتطلّب إذاً تجاوز الماضي تفكيراً حقيقياً وعملاً فعلياً. إنّ ما نفعله وما نفكّر فيه هو ما يبقي علينا عن غير قصدٍ في مكانٍ مؤلم. يمكن القول إنّه من السهل تغيير السلوكيات، ما إن تكفّ عن التفكير بها. وعلى نحوٍ أكثر تعقيداً، يشكّل تجاوز الماضي عملاً نفسياً يتطلّب مهارةً كبيرةً، فهو إمّا نسيان، أو إعادة تقييم الخبرة والتخلي عن وجهات النظر القديمة، أو نبذ المعتقدات العزيزة إلى قلبك إنّما الخاطئة (غالباً في شأن ما يجب أن تفعله حتى تغدو سعيداً)، أو إعادة ضبطٍ أدقّ إنّما أعمق لأفكارك ومشاعرك.

نسيان الماضي يعني أنّ أمراً ما يجب أن ينفتح في رأسك وقلبك، لكنّ هذا التحوّل وهذا التخفيف يبرزان ضدّ مقاومتنا غير المرئية والعنيدة غالباً. إنّ قدراً مهمّاً من هذه المقاومة يتأتّى من أكثر الأمور مللاً، أي عزوف المرء المهول عن التغيير. حتى التغيير نحو الأفضل تغيير ساكنٌ، غالباً يخشاه المرء ويتجنّبه بادئ ذي بدءٍ، فنحن مخلوقاتٌ تهوى العادات والجمود.

وتثبت بحوث نفسية كثيرة المقاومة التي تتصدّى حتى للتغيير الإيجابي. تتمثّل واحدةٌ من أعاجيب المراقبة السريرية في مقدار المشقة الذي يمكن أن يتحمّله الناس قبل أن يقرّوا بالحاجة إلى التغيير. والأخير دائماً ما يكون مزعجاً، أقلّه في البداية.

يلتحم نسيان الماضي مع ما هو أعظم من الوضع الراهن الذي يلتصق بأيّما شدة بالمرء، ويلتحم أيضاً مع الأفكار المشوّهة والمقنعة التي تجعل الاستمرار بالروتين يبدو أمراً عقلانياً وصحيحاً. نستسلم للتفكير السحري ({إذا جنيت مزيداً من الأموال، ستعود إلى أحضاني})، والأوهام ({عليّ الاستمرار في تركيب هذا الدليل. يمكن بطريقةٍ ما أن يَثبت أنّني على حقّ إذا ما تمسّكت به، والأخطاء المنطقية المهولة التي نقترفها ({لم يقدّر أولادي أو يُبدوا إعجابهم بمجموعاتي، لكنّهم سيفعلون يوماً ما}). يشكّل كلّ نمط تفكيرٍ حجةً ماكرة ضدّ نسيان الأمور. ويجب منازلة كلّ واحدٍ من هذه الأنماط وإعادة كتابتها قبل أن ينفتح قلبك وعقلك حقاً على حالة جديدة.

وفي أكثر المستويات عمقاً، يجبرنا احتمال نسيان الماضي على مواجهة ثلاث من أقوى مسيّراتنا العاطفية: الحبّ، والخوف والغضب.

تبقى مجسّات الغضب الأسهل في الفهم، على الرغم من صعوبة الإفلات منها. لأجل نسيان ظلمٍ سابق يشغل بالنا، لا بدّ من التخلّي عن توقنا الشديد والطبيعي إلى العدالة، أو أقّله للكشف عن الأثيم في العالم على ما هو عليه، سواء كان أخاك، أو شريكك التجاري المحتال أو صديقك السابق الشرير. ينطوي إطفاء شعلة الغضب الأزلية على جهودٍ كثيرة. فاز الشخص الشرير، هذا واردٌ.

يشكّل الحبّ نفسه ثقلاً موازناً قوياً في وجه نسيان الماضي. حتى عندما يخرج أحدهم من حياتك، بعد وقتٍ طويل على الانفصال، أو الطلاق أو حتى الموت، يمكن لهذا الأمر أن يشغل بالك وعقلك. نسيان الماضي يعني هنا التخفيف من هذا التعلّق الداخلي، وبالتالي فقدان هذا الحبّ مجدّداً.

ما يجعل من الخسارة الجديدة أمراً جديراً بالاهتمام هو طبعاً أنّ نسيان ذاك التعلّق الغابر يفتح الباب أمام احتمال حقيقي أن يحتلّ تعلّق جديد مكاناً في حياتك. يُفترض أن يكون ذلك كافياً، لا بل حتى حافزاً ملهماً، غير أنّه يترك فراغاً في المستقبل، ونحن كثيراً ما نملأ هذه الفراغات خوفاً. الخوف من المجهول. الخوف من الإخفاق. الخوف من خسارةٍ مستقبلية وألمٍ إضافي. يدفعنا الخوف إلى التشبّث بما نعلمه، بغضّ النظر عن السوء الذي يسبّبه لنا.

يفترض إذاً النسيان مواجهة هذه الحواجز العاطفية غير المرئية، أي أن تعي وجودها أوّلاً وأن تكافح ضدّها ثانيةً. يعني أن تتحدّى المنطق غير المنتج واللامعقول حتى يستقيم تفكيرك. يعني أن تواجه مخاوفك ثمّ تستجمع شجاعتك وشخصيتك لتكون لك الغلبة عليها. يعني أن تواجه تعلّقك المتّقد بحبّ قديم وأن تقلّصه من قبّة إلى حبة. ضع الحبة في جيبك كأنّها تذكير عزيز، وخصّص مكاناً في قلبك لشيء جديد.

نقاط شائكة

ثمة مجموعة من السلوكيات المحددة التي تميل إلى إغراقنا في الماضي. يحشر كثيرون منّا في منازلهم أغراضاً قديمة أو كريهة قلّما يستخدمونها. سواء كنّا متردّدين في مواجهة ما يسبّبه النسيان من وخزٍ عاطفي أو غير مستعدّين لتخصيص وقتٍ أو مجهودٍ مطلوبين لتعرية هذه الفوضى، فإنّ هذه الأخيرة تتبعثر أكثر من خزائننا، ما يغشّي رؤيتنا ويعيق التغيير الإيجابي.

أمعن النظر في حال كانت هذه الأدراج تعجّ بالفواتير غير المدفوعة، إذ إنّ الديون المنهكة تلقي بظلّ طويل وتقتل روحك وإمكاناتك. واجه المشكلة، اجتمع مع مستشارٍ مالي، ضع خطةً وغادر المكتب!

يعتبر تلقّي نفقات الزوجة المطلّقة أو ما يشبهها من نفقات أمراً أقلّ وضوحاً، لكنّه لا يزال احتمالاً هدّاماً بما فيه الكفاية حتى يسترعي انتباهك. لا يُوزّع الطعام مجاناً. من الجيّد أن تحصل على المال، لكن غالباً ما يرافقه اهتمام عاطفي كبير. يمكن أن تستمرّ بالدفع فيما يخالجك شعورٌ دفينٌ بالغضب والاستياء.

ويمكن أن تكون العطلات، مثلها مثل نفقات الزوجة المطلّقة، سيفاً ذا حدّين، فالتقاليد جميلةٌ ومعبّرة ولكن مبالغ فيها. إذا كنت لا تزال تستمتع بالطقوس، فهذا أمر عظيم. إذا كنت تخبّئ سرّاً تتوق إلى الإفصاح عنه لكنّك تشعر بأنّه {لن يُسمح لك بذلك}، ربّما إذاً لست مضطراً إلى التقيّد إلى هذا الحدّ. خالف قانون العطلات وسترى أنّ سلوكيات مطلوبة أخرى كثيرة ستتغيّر كذلك.

ختاماً، وبشكلٍ مفزع، ثمة أمرٌ نفعله ونحن على يقين أنّه أمرٌ لا يجب فعله، فنبقى مثلاً على اتّصال بالشخص نفسه أو الحادثة عينها اللذين لم يتأتَّ عنهما سوى الدمار في المرّة الأولى. لا نشعر غالباً بتحسّنٍ إلى أن نتوقّف عن الذهاب إلى ذاك المكان. أتعلم؟ أنت لا تودّ المواجهة وحسب.

وانطلاقاً ممّا هو أعمق، لا بدّ عليك أن تعترف بأسرارك. لا شيء يبقينا أسرى الماضي أكثر من الطاقة التي يتطلّبها الحفاظ على الأسرار. ثم امضِ قدماً عبر إجراء تقييم صادق لصفاتك الشخصية. هل تميل نحو إلقاء اللوم؟ إنّه ما ينتج منه شعور جيّد، وهو يمثّل عادةً في طور التشكيل، لكنّ هذه العادة تستنفد طاقتك.

أمعن الآن إذاً النظر في عادات التفكير الخاصة بك. هل أعطيت نفسك فرصةً لتطوير عقلٍ صلبٍ؟ إذا كان الأمر كذلك، اعلم أنّك تبادل متعة اليقين باحتمال التغيير. وقد تودّ أن تتوقّف لبرهة من الوقت حتى تتأمّل في ذكرياتك الأعزّ إلى قلبك، خصوصاً تلك المرتبطة بسعادتك السالفة. تختفي الأخطاء ويلمع الخير عندما نتأمّل فيهما عن بعد. هذا أمر مفرح، لكنّه قد يجعل الواقع الراهن قاتماً في المقابل.

تحرّرك من القيد مرهون بمقدار توقّفك عمّا ذُكر آنفاً. لكنّ المضي قدماً يتطلّب عملاً إيجابياً. كما نعلم جميعاً تمام العلم، يطاردنا الماضي من تلقاء نفسه إن لم نبذل مجهوداً في الاتجاه المعاكس. إليك ستّ خطوات عمل يجب اتّخاذها.

     رسّخ نفسك في المستقبل

من الصعب أن تنسى الماضي في ظلّ غياب نظرة إيجابية عن المستقبل، فأنت بحاجة إلى رؤية المستقبل. إنّ استثماراً أو ترفيهاً أو إثارةً ما أمورٌ من شأنها الإمداد بالطاقة والدفع نحو تجاوز الماضي. أمّا إنشاؤها فيتطلّب تركيزاً ذهنياً متعمّداً.

أرغم نفسك على الانخراط في صفّ عبر الإنترنت ساعياً إلى النظر إلى الأمور من منظار مختلف. وظّف مدرّباً وأبقِ تسجيلاً مفصّلاً عن التحسّن الذي يشهده جسمك. ضع نصب عينيك مستهدف مبيعات جديداً أو تصوّر وظيفةً أفضل. حدّد لنفسك هدفاً ستعمل على تحقيقه، فمن شأن هذا أن يساعدك، أن ينجّيك من رمال الماضي المتحرّكة.

يمكن طبعاً أن يصير إيجادك طريقك إلى الأمام منازلةً شرسةً. سيخفّف العش الدافئ الجديد من فداحة الخسارة المؤلمة التي تكبّدتها بفقدانك الجوّ الأسري القديم. لكن عليك أن تعاين عدداً كبيراً من العقارات. فقد تجعل الوظيفة التي تناسبك أكثر من غيرها من الإخفاق المذلّ الأخير يبدو كالبركة. لكن عليك أن تتحمّل عدداً مهولاً من المقابلات، وعلى الرغم من ذلك، سيكون عبؤك العاطفي أقلّ وزناً.

      انبذ

يبدأ الدفع بشكلٍ فاعل بعيداً عن الماضي بالنبذ. واعدتُ قبل بضع سنوات رجلاً لطيفاً للغاية كان قد فقد زوجته قبل ثلاث سنوات. آمن بكلّ إخلاص أنّه أراد شريكة جديدة وأنّ الأخيرة قد تكون أنا، لكن كان منزله لا يزال واقفاً على عتبة موت الزوجة. فها هي مساحيق التجميل التي استعملتها تفترش المكتب، والفواتير الطبية مكدّسة على طاولة المطبخ، فيما تزخر الخزائن والأدراج بالثياب. حياته نفسها لم تكن سوى طبقةً تغطّي أغراضها، من أوراق، وكتب، وقمصانٍ جديدة، ومعاطف قديمة في كلّ حدبٍ وصوب. وفي محاولةٍ منّي للمساعدة بعدما ضقت ذرعاً بشكاواه المتكرّرة في شأن سوء التنظيم، أمضيت نهاية عطلة أسبوعٍ معه محاولةً أن أتخلّص من الأغراض المتراكمة وأن أوجد بالفعل مكاناً لنفسي.

وفي ختام نهاية عطلة الأسبوع، وقعت فجأة صورةٌ كبيرة لزوجته كانت معلّقةً في إحدى الزوايا. فما كان منه إلّا أن سارع ليعيد تعليقها صارخاً: «انظري إلى ما فعلته، لقد أوقعت ماريلين». ظلّت ماريلين في البيت فيما هممت أنا بالمغادرة.

ألقِ نظرة على محيطك الخاصّ، فهو يبعث برسالة في شأن انفتاحك على التغيير وإعادة البناء.

النبذ الذي لا يعرف الرحمة طريق أساسي للمضي قدماً في ظلّ ظروفٍ حياتية خاصّة، عندما تصير واحداً مع شريكٍ جديد، في حياةٍ جديدة. لا يحتاج المرء إلى أريكتين بنّيتين في غرفة معيشة واحدة. مارس النبذ إذاً عندما تهمّ بالتقليص. قد يبدو مفيداً عند هذا المنعطف من حياتك أو ذاك أن تمضي قدماً عبر تبسيط الأمور. إذا كنت غارقاً في مستنقع الاستحواذات السالفة، من ألعاب معطّلة، وقروض رهنٍ عقاري ضخمة، وقبوٍ تملؤه الفوضى وخزائن تعجّ بالثياب، لا سبيل للمضي قدماً إلّا عبر ممارسة النبذ (سواء تبرّعت بهذه الأغراض، أو بعتها أو رميتها بكلّ بساطة). سوف تجد أغلب الظنّ القيم الحقيقية تحت كلّ هذه الأغراض التي راكمتها.

وعلى نحوٍ حادّ، عليك بالنبذ عندما تشعر بالألم. ضع الذكريات التي خلّفها قلبك المحطّم أو بدايتك المتعثّرة في ما يُسمّى بـ{حقيبة الماضي». إن لم تكن غير قادرٍ إلى الآن على التخلّص منها، ضعها في زاوية مظلمة في إحدى الخزائن. لن تعني يوماً ما أيّ شيءٍ بالنسبة إليك. تخلّص منها حينها.

ابدأ بالأماكن الصغيرة، ماذا عن درج المنضدة الخاصة بك؟ رتّبه بطريقه ذكية: حافظ على هذه الملكية، أو تخلّص منها او انقلها إلى شخصٍ آخر. فيما تعتاد الأمر، ستتقلّص كومة الأغراض التي تحافظ عليها. استعد لتشعر بالقلق، والنشاط، والحزن، والانسحاق، والندم والحنين. لا يهمّ ما المشاعر التي تخالجك، ما دمت تتابع ممارسة النبذ.

      أصلح

كانت الرسالة مجهولة المصدر وموضوعةً في مغلّفٍ لا يحمل عنوان المرسل ويحتوي على خمس أوراق من فئة المئة دولار بالإضافة إلى تفسير بسيط: «عزيزي ريشار، عملت لديك قبل 22 سنةً، عندما كنت تملك مكتبةً صغيرة. كنت رئيساً لطيفاً، وعادلاً وكريماً. لكنّني سرقتك على مرّ الزمن ولم تكن قطّ على علمٍ. لا أعتقد أنّك شككت في الأمر حتى. إليك ما سرقته من مال، يرافقه أسفي الشديد».

قرأ ريشار الرسالة أمام كثير من أصدقائه، سائلاً كلّ واحدٍ منهم إذا ما كان يدين هو أيضاً لشخصٍ ما في ماضيه، سواء في قلبه أو ذهنه، برسالةٍ مشابهة. أنا أطلب منك الأمر عينه.

إحدى الطرق الأكيدة لتجاوز الماضي هي بالعودة بهذه العلاقات التي حادت عن المسار إلى الطريق القويم، سواء كان ذلك نتيجة الهجر، أو سوء التفاهم أو التردّد في رؤية دورك في نزاعٍ غابر. صحيحٌ أنّك لم تسرق، لكنّك تمكّنت من رؤية الضرر الذي تسبّبت به، ومن لم يفعل؟ لطالما كنت لئيماً مع أحد إخوتك، أو قاسياً مع أحد الوالدين، أو مسيئاً مع شريكٍ سابق أو غير داعمٍ لصديق في ضيق.

أصلح الأخطاء. قلّما يعني هذا أيّ أمر ملموسٍ كإرسال الأموال مثلاً، بل يتضمّن عموماً أن تتّصل بشخصٍ آخر، وجهاً لوجه أو عبر المراسلة، وأن تعبّر عن ندمك.

يتضمّن بيان بالندم ثلاث أجزاء أساسية:

1. تعبير واضحٌ عن الأذى الذي تشعر بأنّك تسبّبت به («عندما كنّا صغاراً، مازحتك بطريقة لئيمة للغاية»).

2. فرصة حتى يتمكّن الشخص الآخر من إبداء رأيه في شأن غضب قديم أو ألمٍ غابر، وهو ما سيشكّل أمراً لا يريح سماعه لكنّه يتطلّب موافقةً منك ({أرى أنّني خذلتك، وعاملتك بطريقة رهيبة ولم أكن عادلاً في حقّك. لك كامل الحقّ في أن تكون غاضباً}).

3. تعبير حقيقي عن الندم ينبع من القلب (أريدك أن تعلم أنّني على علمٍ بالطريقة التي أذيتك بها، وأنا آسفٌ للغاية).

قد تعيد الخطوات التصحيحية المياه إلى مجاريها وقد لا تعيدها، ويبقى أن تحدّد عوامل أخرى كثيرة ذلك. لكنّها طريقة حتى تضع خلف ظهرك هذا الجزء من الماضي الذي ما انفكّ يعصف في داخلك بشدة.

     حوّل سرديّتك

نحن بكلّ بساطة قصّتنا، لا قصص الأحداث التي تقع في حياتنا، بل بالأحرى القصص التي نرويها لأنفسنا في شأن الأدوار التي اضطلعنا بها في الأحداث – سواء كنّا أبطالاً أو ضحايا، محبوبين أو غير مستحقين، كفوئين أو مهملين.

تكمن إحدى الاستراتيجيات الناجعة في تخفيف ألم الماضي في إعادة كتابة الأوجه الأساسية للقصة من وجهة نظر متّزنة ومتفهّمة. فإعادة الكتابة السليمة من شأنها أن تنزع عنك صفة الضحية وتقلّل من انهيارك وضياعك مقارنةً بما كنته عند وقوع الحادث. تقلّل إعادة الكتابة من غضبك الدفين، وخسارتك وخوفك، وهي الأمور التي كانت تردعك عن الإقدام. «شعرت بالحقد لفترة طويلة لأنّ زوجي خانني فوضعت حداً لزواجنا. لم أكن سعيدة في حياتي الزوجية، لكن أقلّه لم أخنه! لم أعد غاضبةً بعدما اكتشفت أنّ علاقته الغرامية هذه فتحت الباب أمام كلينا. غادرت وبقيت رغم ذلك الشخص الجيّد. هذه هبة».

«ابتعد زوج أختي عن شركتنا العائلية عندما أوشكنا على الإفلاس. اعتقدت اّنّه نذلٌ أناني كان قد استغلّني، وقسم حقدي العائلة طوال عقدٍ من الزمن. لكن في نهاية المطاف، اكتشفت أنّنا شخصان كان أمام كلّ منهما خيارٌ ليتّخذوه عند مفترق الطريق، فجاءت خياراتنا مختلفةً. لم يكن يفضّل شخصاً عليّ، فالأمر لم يكن يتعلّق بي على الإطلاق. وما إن تقبّلت بالفعل هذه الحقيقة، حتى بات بإمكان العائلة أن تجتمع في عشاء عيد الشكر».

لا تسعى إعادة الكتابة إلى تغيير وقائع سردية ما، بل ترى ببساطة هذه الوقائع بعينين أكثر نضجاً وتعاطفاً وأقلّ ألماً. تساعدك هاتين العينين على النسيان.

      سامح

تشكّل السرديّة المتحوّلة خطوةً نحو المسامحة في أكثر المسارات وعورةً. هل من الممكن حقاً أن تعاني جرحاً عميقاً، ومعاملة مجحفة وظلماً شديداً، وأن تسامح الجاني؟ أجل، هذا ممكن وقد شهدت على ذلك. المسامحة أعمق الطرق حتى تحرّر نفسك من تدخلات الماضي العاطفية.

وهي تساعدك على تحديد أجزاء نفسك التي تواجهها. عندما نتعرّض لظلمٍ كبير، ثمة مكافآت قوية حتى يبقى حقدنا متّقداً. الغضب أشبه بلوحة تروّج لشرور المعتدي علينا. أمّا المسامحة، فهي أشبه بالسماح للشخص الشرير بالإفلات، لا بل بتأييده حتى، قد يبدو هذا أمراً لا يُطاق. ويمكن أن يكون الغضب أيضاً محفّزاً للغاية، فهو يهبنا الشجاعة المطلوبة كي نواجه رئيساً غير عادلٍ والطاقة التي نحتاج إليها حتى نعبر التجربة المؤلمة.

هذه أمور كثيرة سنستغني عنها في سبيل المسامحة. عليك أن تؤمن بأنّك ستكسب المزيد عبر المسامحة عوض إبقاء نار غضبك متّقدةً. وهذا ما سيحصل عادةً وفي نهاية المطاف. عندما تغيب خطوة العمل البنّاءة التي يجب اتّخاذها والتي تغتذي من غضبك، تفوق كلفة الغيظ الذي تضمره مكافآت معاقبة المعتدي، وتمسي حينها المسامحة ممكنةً.

المسامحة قرارٌ لا استسلامٌ، وهي تعني التالي: «لقد ظلمتني ولم أستحقّ ما فعلته بي. لقد غضبت لوقتٍ طويلٍ بما فيه الكفاية، سأضع غضبي جانباً لأنّني لا أودّ حمله بعد الآن».

سجّل قرارك بالمسامحة، أو أخبر شخصاً مهماً في حياتك. اكتب رسالةً إلى الشخص الذي أذاك وأخبره بما ظلمك تحديداً. ضمّن الرسالة سرديّتك الجديدة التي تروي قصّتك المتغيّرة («أبي، كانت نوبات غضبك مثيرةً للرعب، لكنّني قادرٌ اليوم على مسامحتك على إدمانك الغضب. ما كنت يوماً لتختار هذا الصراع».).

تنطبق المسامحة أيضاً على إيذاء الذات من دون أيّ رحمة بفعل العيوب التي تشوب أنفسنا الناقصة. سواء يتعلّق الأمر بكذبة مؤلمة تفوّهت بها، أو فرصةٍ أضعتها، أو مال أسأت إنفاقه أو وقتٍ أمضيته في وصف ابنك بالغبي أو الكسول، اختر واحدةً من الخطوات الآتية أو كلّها لتسامح نفسك على ما تجلد نفسك بسببه.

• عالج: ادفع ما تدين به وتخلّص من الغرامات المترتّبة عليك. ضع الأمور في نصابها الصحيح حيثما أمكن.

• اعتذر: اعترف بالضرر الذي تسبّبت به، فمن شأن ذلك أن يخفّف من محنة الشخص الآخر، وهو دواءٌ جوهري لنفسك.

• اعترف: أخبر صديقاً عن الأوقات التي لم تؤدِّ فيها دور الوالد بشكلٍ جيّد. أخبر الزوج عن سلوكك الغبي.

• افرض غرامةً: هل تشعر بالذنب بسبب الفظاظة التي تصرّفت بها مع شريكك؟ اعرض عليه بعد الاعتذار أن تتمّم نيابةً عنه أقلّ عمل منزلي يهوى فعله لمدة أسبوعٍ.

• اكتب مئة مرّة: «الحكم الجيّد ثمرة الخبرة والأخيرة ثمرة الحكم السيئ».

     تعلّم أن تكون حاضراً

لا شيء، سواء كان تقنية فردية أو تطوّراً داخلياً، يضاهي القدرة على أن تكون حاضراً في الزمان والمكان الراهنين قوّةً بمثابة مضادٍ للماضي. وللأسف، تبقى قدرتنا الطبيعية على هذا التركيز محدودةً للغاية بفعل قطع المغناطيس العاطفية الكبيرة هذه، كالخوف من الماضي والمستقبل، والحبّ، والغضب، والقلق، والخجل، والندم والخيال.

القدرة على التركيز على الحاضر قابلة للتحسّن، والتقنية التي يمكن استخدامها لتحسينها هي اليقظة، وهي ممارسةٌ تسجّل فيها من دون التسرّع في إصدار الأحكام الأفكار والأحاسيس التي تطرأ في اللحظة نفسها.

اليقظة مهارةٌ مكتسبة، وفوائدها في الحدّ من الإجهاد موثّقةٌ، ناهيك عن كثير من الآثار الجانبية الإيجابية، العاطفية منها والروحية. ولليقظة مكافأة إضافية، إذ فيما تزداد مهارة اليقظة لديك، ستتجاوز الماضي بحكم التعريف.

back to top