كان المهندس صباح الناصر، رحمه الله، يجمع كل ما تعلمه في عمله، عبر سنوات العطاء مع من حوله، وما علمته الحياة، ويجلس إلى مكتبه، ليستلهم من كل ذلك الحلول الممكنة للمشاكل التي تواجهها البلاد، حلولاً حقيقية وواقعية وممكنة التحقيق، من دون تعقيدات.

Ad

قبل عام من الآن خسر الكويتيون، رغم أن الكثير منهم لا يعلمون، حارسهم، المهندس صباح الناصر السعود الصباح... خسروا رجلاً كان يعبر عنهم، وسخّر حياته فقط للبحث عن حلول لمشاكلهم، وحارب من أجل تحقيق هذا الأمر. وكانت جل مقترحاته والمشاريع التي تقدم بها تعبر عن رؤيته في سبيل إيجاد حلول لمشاكل البلاد الاجتماعية والاقتصادية خاصة.

رجل كان يأخذ بعين الاعتبار مصلحة وكرامة كل كويتي، وكذلك الأجيال القادمة، ولم يحصر رؤيته في منظور شامل يرمي لمصلحة البلاد ككل فحسب، بل كان همه كل كويتي.

بالنسبة لي، وللكثيرين ممن عرفوا المرحوم المهندس صباح الناصر، كان، ولايزال، يعكس صورة الكويت ويمثلها، نراه في تراب البلاد، في سمائها، وفي شعبها... إنه الكويت.

نراه قمراً مكتملاً ينير في أشد الليالي ظلاماً، نراه في سعادة الأطفال وصدى ضحكاتهم، هو النسمات الجميلة التي تنعشنا في أشد أيام الصيف حرارة، هو كل شيء جميل يحيط بي، كان ولايزال الوحيد الذي يبعث فيَّ الأمل عندما تضيع كل آمالي.

كنت أتصل بوالدي هاتفياً في كل صباح في طريقي إلى العمل، وأتصل به عندما أنهي يومي، وفي كل محادثة كانت أول جملة يقولها: "حدثيني..."، وكانت هذه طريقته دائماً، ومع الجميع، لم يكن يتصل بالناس ليتحدث، بل ليستمع، وكأنه كان يعلم جيداً أن الآخرين بحاجة إلى من يستمع إليهم، ثم كان يبتسم، ورغم أنني لم أكن أرى ابتسامته، لكن له من القدرة أن يشعرك بأنه مبتسم.

وعلى الرغم من ألمه تجاه حبيبته الكويت، وما كانت تمر به سياسياً واجتماعياً واقتصادياً من أوضاع، فقد حافظ على ابتسامته، ولم يفقد نبل الاستماع إلى الآخرين.

كان المهندس صباح الناصر، رحمه الله، يجمع كل ما تعلمه في عمله، عبر سنوات العطاء مع من حوله، وما علمته الحياة، ويجلس إلى مكتبه، ليستلهم من كل ذلك الحلول الممكنة للمشاكل التي تواجهها البلاد، حلولاً حقيقية وواقعية وممكنة التحقيق، من دون تعقيدات.

كان والدي، رحمه الله، يتمتع بموهبة حقيقية في القضاء على المشاكل وإيجاد الحلول الممكنة، موظِّفاً رؤيته وبُعد نظره، والبداهة في الأمور لأنه مخلص بشغف لرسالته، وللأهداف الدقيقة التي يريد تحقيقها.

كان مصمماً، مهندساً وحالماً... كانت الكويت همه الأول.

عندما كان الجميع يخلدون إلى النوم، كان المرحوم المهندس صباح ينكبّ على عمله، يرسم مشاريع، واقتراحات أراد من ورائها حماية الكويت وتحديد معالم مستقبلها بدقة.

أثناء فترة المقاومة كان بطلاً من أبطالها، وفي فترات السلم والاستقرار سخّر نفسه وحياته في سبيل تحقيق التغيير والتطوير.

لم يتوقف والدي، رحمة الله عليه، أبداً عن العطاء والعمل، فكان بعد كل مشروع مميز لحل مسألة ما، يضع لنفسه تحديات جديدة وينكبّ على العمل لتحقيقها.

وعلى الرغم من أن أغلب مقترحاته ومشاريعه، كانت تركن على مكاتب كبار المسؤولين في الدولة، فإنها كانت تحتل قلوب وعقول الكويتيين وتترسخ فيهم...

مشروع "فزعة" لحل مشاكل الإسكان في الكويت، مشروع المدينة الطبية، تصميم "نصب الشهيد" الضخم الذي أراده عرفاناً بالجميل لشهداء الغزو العراقي الغاشم الذي تعرضت له الكويت... هذه فقط بعض الأمثلة التي تعكس مجموعة من المشاريع التي عاش من أجلها وبها.

ووسط كل هذه المشاغل الضخمة، كان قلب والدي ينبض حباً لعائلته، وعلى رأسها والدتنا، كان لي شرف ومتعة العيش داخل دائرة قصة حب جميلة، جمعت والدي رحمه الله بأمي، ورغم رحيله المفاجئ، مازالت القصة متواصلة إلى يومنا هذا.

روحه، صوت ضحكاته، محبته، كلها تحيط بنا الآن... تعكسها قوة أمي وشجاعة شقيقيَّ ناصر ومبارك، وحنان أختيَّ إيمان ومريم.

ومع كل يوم يمر نتجه نحو تحقيق ذاته نتوجه أن يكون كل واحد منا "صباح"، ومثلما حافظ علينا، وحمانا، نعمل الآن بعزم لنحمي ونحافظ على أغلى وأعز شيء على قلبه وقلوب الكثيرين، الذين منهم من رحلوا وهم الآن مثله تحت التراب، نعمل على حماية هذه الأرض التي كانت ومازالت لهم، والتي وحدها تثبت وجودهم وتشهد عليه، لأن الأرض لا تنكر الخير.

اليوم، غاب الوجود والصوت والوجه، وبقيت السمعة والكلمة والصورة.

اليوم، نحمل أحلامه ونبقيها حية في قلوبنا، وننتقي من حديقة أفكاره كل يوم زهرة، لنكمل طريقاً سار فيه، ومشروعاً لم يكمله، ومصاعب مازالت بانتظار حلوله...

وكل يوم عندما أهجع للنوم مساء، وقبل أن أغفو وأدخل في مملكة النوم ، أسمع صوتاً حبيباً يهمس في أذني "حدثيني...".