المنحوتة التي أتأملها تمنح فرصة لإصغاء موسيقي داخلي، لأن المنحوتة تتمتع بما تتمتع به الموسيقى من لحن عبر الخطوط والانحناءات، ومن هارموني عبر التعارضات.
في الكتاب الذي أصدرتُه قبل شهرين عن "الموسيقى والرسم" (دار نون) لم أتعرض للنحت إلا عرَضاً. لأن المادة المتبادَلة بين الموسيقى وفن التشكيل بالغة الغنى، في النقد الفني الغربي، بحيث لم تترك متسعاً. وكأن العلاقة تطمع بكتاب مستقل.في المعرض الكبير الذي زرته أخيراً في "المتحف البريطاني" عن النحت اليوناني، وكان بعنوان "تعريف الجمال"، بلغت الموسيقى مشارف الأذن. فالجمال الذي يأتيك محمولاً على عنصريْ اللحن والهارموني إنما هو جمال موسيقي.النظر إلى منحوتة "رامي القرص"، على سبيل المثال، التي تُنسب إلى النحات اليوناني "مايرون"، القرن الخامس قبل الميلاد، إنما هو إصغاء أيضاً لانحناءات اللحن، وتعارضات الهارموني، في هيئة الرياضي الذي ينحني قليلاً، استعداداً لرمي القرص في قبضة ذراعه اليمنى، التي تمتد وراء ظهره. صدر الرامي يستدير متجهاً إلى المشاهد، في حين تبقى الساقان مع الرأس باتجاه اليسار. الذراع اليمنى تمتد عضلية متوترة مع القرص إلى الخلف، في حين ترتخي الذراع اليسرى أمام الرامي إلى الأسفل. كان العقل اليوناني يرى في هذه التعارضات قوامَ التوازن، أو الهارموني.الفنان اليوناني يتمثل مقولة فيثاغورس عن "أن الإنسان هو مقياس الأشياء جميعاً"، وجمال جسده بفعل التوازن والانسجام إنما يعكس توازن وانسجام الكون. حتى الجمال الحسي للجسد العاري إنما ينطوي على "صلابة أخلاقية"، بفعل ارتباط جوهري بعافية وصحة الجسد، على حد تعبير سقراط، تسمو به عالياً. لقد كان العري في الفن أكثر من مقبول لدى اليونانيين، قياساً لفناني الرومان وفناني الشرق المتوسط الآخرين، في مصر والعراق وما تلاهما، حيث كانت هيئات الذكر والأنثى في النحت والرسم عادة ما نراها تحت رداء. ولكن المرحلة المبكرة من فن النحت اليوناني كانت متأثرةً بالنحت المصري ونحت بلاد ما بين النهرين، وقد قدّم المعرض عينات من هذه الأعمال.على أن اليوناني في مرحلته الكلاسيكية، مرحلة النضج الحقيقي، كان يميز بين العري الهادف، الذي يسعى الشباب فيه إلى الرياضة، وجمال الجسد البطولي الفتيّ والصحي، وبين الكيان المُعرّى عري الأسير أو العبد.هذا الجسد الإنساني أصبح لدى اليوناني الموضوع الأكثر أهمية في المسعى الفني. كان يرى آلهته تملك هذا الجسد ذاته، وما من فارق بين الدنيوي والمقدس فيه.أكثر الأعمال في المعرض نسخ رومانية عن الأصل اليوناني، والرومان، الذين حكموا اليونان بعد انهيار حضارتها، كانوا يتمثلون إرثها بإجلال، يذكّر بتمثل الحضارات العراقية القديمة، الأكدية والآشورية، للحضارة السومرية التي سبقتهما.لقد واصل الرومان إرث اليونان الفلسفي، الأدبي والفني بعد احتلالها عام 146 قبل الميلاد. ولكن هذا التمثّل لم يبلغ تلك السمة العبقرية التي تمتع بها اليونانيون. على أن الرومان، بحقل النحت هذا، قاموا بدور رائع في صيانته من الضياع. فلقد استنسخوا أعمالا كثيرة كانت عرضة للتلف، لأن اليونانيين الذي ألفوا صياغة البرونز في النحت، كانوا لا يترددون في إعادة استخدام البرونز وقت الحاجة (حرب، صناعة أو تجارة..). ولكن هذا العرض احتفظ ببعض الأعمال الأصلية، دون أن تكون بهيئتها الكاملة.فنصب "إله النهر إلِّسوس" جاءنا مبتور الرأس ونهاية الأطراف، ولكن الجذع الذي يواجه المشاهد، مع الذراعين والساقين، وهو يتكئ على الأرض يزدحم بحركة، يمنحها الرداء ذو الطيات حول الكتف، والذي ينحدر بقوة على الظهر، تدفقاً مائياً.ومنحوتة "أفروديت" تنحني عارية في حمامها، تمثل أول مسعى لتعرية الأنثى، بعد أن كان العري يقتصر على الذكر، تلتفت إلى المشاهد، وكأنها جافلة من تطفّله. في حين تنطوي الذراع اليمنى على الصدر، وترتفع الأصابع فوق الكتف، بحيث تُرى من الخلف. إنها واحدة من آيات الجمال النحتي اليوناني.
توابل - ثقافات
تعريف الجمال
09-04-2015