ألحت عليّ زيارةُ العاصمة لشبونة، منذ اقترحها عليّ صديقٌ فرنسي. قال لو أنه يملك دخلاً مضموناً لأقام في هذه المدينة كل حياته. عبّأتُ جهاز "الكِنْدل" مختاراتٍ من شعر فيرناندو بْسوا، وذهبت. حين غادرت سيارةُ الأجرة طريق المطار سرعان ما انتهت من الطريق المنبسط، لتدخلَ

Ad

تضاريسَ أرضيةً من التلال. وهذا أول ما قرّبني من المدينة. شعور انتابني مع بيروت (1969)، ومدينة الجزائر مؤخراً. تضاريس تتيح لك فرصةَ أن تتأمل الحياةَ من فوق ومن تحت في دقائق. ثُم ان اختبار عضلِك في رياضة طبيعية فرصةٌ لا تُتاح في العواصم عادةً. ولكن مشهد الترام، وهو المرأى الثاني، كان أشبه بقفزة مكّنت قدميّ من أرض الأحلام. انتزعتني من واقع ما بعد الحداثة الألمنيومي البارد، المتسارع، إلى احتمال زمن خشبي دافئ، متباطئ.

تعجّلتُ ارتيادَ الترام، ما إن انتزعتُ النفس من الحقيبة. عربةٌ واحدةٌ لا غير، خشبيةٌ، صفراء البشرة، وصغيرةُ الحجم نسبياً، إذا ما قيست بسيارات النقل. مقاعدُها الخشبُ على عهدها يوم تأسيسهاعام 1873 وقد جيء بها من أميركا، يوم كانت تعتمد الخيول، ثم عهد كهْربتِها عام 1901. عدد الوقوف المسموح به أكثر من عدد الجالسين. تنوء بهم فحركتها بالغةُ البطء، وكأنها تفعل ذلك عن دراية بفعل الحذر، وضاجةُ الصرير بفعل الألم. فالأرض ذات ارتفاع وانخفاض مفاجئيْن، والطرق قديمة ضيقة، وأحياناً بالغة الضيق. حتى لتعجب كيف تأمنُ العربةُ من المارة، وكيف يأمن المارةُ منها، فكلاهما رقيقٌ عزيز!

إنها عروسُ لشبونة دون منازع. وبقاؤها قيد الحياة رهينُ العقل، والعصر الحديث تخلّى عن العقل أو يكاد. وإذا احتفظ بشيء منه فهو عقلٌ بالغ النفعية. ولا يُقارن نفعُ الترام بنفعِ المترو الحديث بالتأكيد. ولكن أيّ جمالٍ منهما يبعث على التنّهدات؟

المرأى الثالث هو لمسة الإرث العربي الإسلامي المتبقية على المرصّعاتِ، الواجهاتِ السيراميكية لمنازل السكن، بيوتِ الأزقة القديمة، العمارةِ التاريخية، وأسماءِ الأماكن. ووجوهُ البرتغاليين، حركةُ أعضائهم عند المشي والحديث لا تختلف كثيراً عن الوجه والحركة العربيين. وإذا قلت لأحدهم إنك عربي يُجيبك بأن تذهب إلى منطقة "ألفاما" في قلب المدينة لتجد ظلالَك مازالت بالغةَ الوضوح. ومنطقة "الـفاما" (الحمّام في الأصل العربي) عجيبة في أزقتها المنحدرة عميقاً، وكأنها أحياء في وادٍ ضيق. هناك تكثر مطاعم موسيقى الـ"فادو" الشهيرة، حيث قضيت سهرة مع أصوات مغنيتين ومغنييْن مع عازفيْ غيتار يقارب شكل العود. والفادو (التي تعني القدر) ألحانه عاطفية، تميل إلى الحزن والتوق.

جلستُ في مقهى "براسيلييرا" التي كان يرتادها الشاعر فِرناندو بْسوا (1888-1935)، وأخذت صورة مع منحوتته البرونز على الرصيف، وهو جالس بقبعته ونظارته ولباسه الجنتلماني. ولكني فوجئت، حين زرت مسكنه الذي لم يصبح متحفاً إلا في العام الماضي، بأنه يحتل غرفة صغيرة في مبنى بطوابق أربعة، ينفرد فيها سريرٌ، خزانة ملابس، طاولة وصندوق كبير كان يُلقي فيه قصاصات قصائده، ولا يسعى لنشرها.

الغرفة الصغيرة العارية، داخل العمارة الفارغة التي أصبحت مركزاً ثقافياً، بدت لي أشبه بعينة رمزية لكيان شعري، بالغ الإدهاش والغرابة. فهو لم ينشر، على غزارة إنتاجه، إلا مجموعة شعرية واحدة في حياته. وكان يكتب القصائد موزعة على شخصيات شعرية مُتخيلة، مخلتفة ومتضاربة الرؤية: ألبيرتو كاييرو، كامبوس، ريكاردو ريس واسمه هو بْسُوا.

قبعتُه السوداء الشهيرة توسطت سريره. نظارتُه السوداء المدورة استقرت على طاولته. وحين سألت عن مرافقه الصحية قيل لي إنها أُزيلت بفعل إهمال أتلف المبنى الذي عاش فيه أهم شاعر برتغالي، وأحد أهم شعراء القرن العشرين. فقلت: لابد أن لهؤلاء جذراً عربياً. فنحن أبرع الأمم بانتهاكٍ كهذا.

قرأت بعد الزيارة قصيدته الطويلة "أنتيناوس" (1918) الذي كتبها بالانكليزية، مستحضراً لواعج القائد الروماني "هادريان" بعد موت صديقه المقرّب "أنتيناوس":

أمطرتْ في الخارج داخل روح هادريان.

الفتى مطروحٌ ميتاً

على المقعد الخفيض، وقد جُرّد من ملابسه تماماً..