كيف يتنكر قاض قضى جل عمره في تطبيق القوانين الوضعية حتى تبوأ منصبه الرفيع في محكمة النقض، وهي المحكمة العليا التي تراقب مدى التزام المحاكم بالقوانين الوضعية، فتقضي بإلغاء ما يخالف هذه القوانين من أحكامها؟

Ad

دور المدرسة والمسجد في مكافحة الإرهاب

قلت في مقال الأحد الماضي تحت عنوان "على هامش ملتقى العربي... التسامح والسلام" إن تغيير المناهج التعليمية لتربية النشء على التسامح والسلام والقيم الأخلاقية الرفيعة، وإن كان أمرا مطلوباً، إلا أن هذا الدور للمدرسة يظل عاجزاً عن مواجهة فكر الإرهاب والتطرف.

وينطبق القول ذاته على دور المسجد التنويري للناس، والذي مهما غاب فإنه يظل بيت الله الذي يؤمه المصلون من شيوخ ورجال وأطفال ونساء، ليغتسلوا من كل ذنوبهم ولتصفو مشاعرهم وتزكو ضمائرهم، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.

ولئن كان المطلوب أن يعود دور المسجد التنويري في نشر فكر التسامح والسلام، وأن يكون منارة ضد التعصب، فإن دوره سيظل عاجزا عن مواجهة فكر الإرهاب، وأساس ذلك أن جماعات التطرف والإرهاب تبرر كل جرائمها البشعة بأنها في سبيل إقامة دولة إسلامية تطبق شرع الله، وهو هدف نبيل يجد قبولا لدى كل من تربى على التسامح والقيم الإسلامية الرفيعة قبل غيرهم، وهو مستعد للتضحية بحياته في سبيل تحقيق هذا الهدف، لأن أحدا لم يناقش هذا الهدف في ضوء الدساتير والقوانين الوضعية التي تطبقها الدولة المدنية، ليظل هذا الهدف مبهما وغامضا حتى مع من يحملون دعوته تحت شعار رفعوه: "القرآن دستورنا والإسلام هو الحل".

وقد جرت محاولة في مجلس الشيوخ المصري لمناقشة هذا الهدف، عند إعداد مشروع القانون المدني، نرويها كما وردت في الأعمال التحضيرية لهذا القانون.

رفض للقوانين الوضعية دون مناقشة

وكان قد دعي عدد من المستشارين بمحكمة النقض ومحكمة الاستئناف، إلى اللجنة التشريعية بمجلس الشيوخ في اجتماعها المعقود يوم الأحد 30 مايو سنة 1948 لمناقشة الانتقادات الموجهة من بعض المستشارين لمشروع القانون المدني، وكان من بين الحاضرين حسن الهضيبي بك المستشار بمحكمة النقض، والذي أصبح بعد ذلك المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بعد اغتيال الشيخ حسن البنا، حيث قرر في هذا الاجتماع ما يلي:

حسن الهضيبي بك: أود أن أقول إن لي رأيا معينا في المسألة برمتها، وليس في القانون المدني فقط، وهذا الرأي بمثابة اعتقاد لدي لا يتغير، وأرجو أن ألقى الله عليه. إنني لم أتعرض للقانون المدني باعتراض أو بنشر وأنا لم أقل شيئا يتعلق بمضمونه، لأن من رأيي ألا أناقشه.

واستطرد ليقول:

والذي قلته أنا في تصحيح الرأي الذي نشر– في الانتقادات الموجهة إلى مشروع القانون المدني- أن التشريع في بلادنا كلها وفي حياتنا يجب أن يكون قائما على أحكام القرآن، وإذا قلت القرآن فإني أعني كذلك بطبيعة الحال سنّة الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأن طاعته من طاعة الله.

مصدران وحيدان للتشريع

ويدور حول هذا الرأي في اللجنة النقاش التالي:

حضرة الشيخ المحترم جمال الدين أباظة بك: يقصد سعادة حسن الهضيبي بك القرآن والحديث؟

حسن الهضيبي بك: نعم يجب أن يكون هذان المصدران هما المصدران لكل تشريع، فإذا ما أردنا أن نأخذ شيئاً من التشريعات أو النظم الأجنبية فيجب أن نردها أولا إلى هذين المصدرين "فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ" فإذا كان هذا التقنين صادراً عن أحكام القرآن والسنّة كان بها، وإلا فيجب أن نرفضه رفضا باتا، ونرد أنفسنا إلى الحدود التي أمر الله بها.

حضرة الشيخ المحترم جمال الدين أباظة بك: وإن سكت عنه؟

حسن الهضيبي بك: الأمور في الشريعة، أمر ونهي وعفو "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا"، أما العفو فهو من الأمور المباحة التي يمكن لولي الأمر أن يصرفها كما يشاء على ما تقضي به المصلحة.

من أجل هذا لم أشترك في مناقشة مشروع القانون المدني موضوعا، ومن رأيي أن يصدر كيفما يكون، لأني شخصيا أعتقد أنه ما دام غير مبني على الأساس الذي ذكرته والذي أدين به، فخطؤه وصوابه عندي سيان.

تقدير رأي المرشد العام

والبادي أن المرشد العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين في رفضه لإبداء رأيه في مشروع القانون المدني، أنه كان يصدر في هذا الرأي عن عقيدة يدين بها، وهي رفض مناقشة أي قانون وضعي، فهو يرى أن القرآن والسنّة، هما المصدران الوحيدان للتشريع، وبالنسبة إلى الأمور التي سكت عنها هذان المصدران، فهو يرى أن لولي الأمر أن يصرفها كما يشاء على ما تقضي به المصلحة، دون أن يقيد بقانون وضعي، يضع قواعد عامة ومجردة، تسنه بعد مناقشته سلطة تشريعية منتخبة من الشعب.

وهو ما يطرح سؤالا مشروعا هو: كيف يتنكر قاض قضى جل عمره في تطبيق القوانين الوضعية حتى تبوأ منصبه الرفيع في محكمة النقض، وهي المحكمة العليا التي تراقب مدى التزام المحاكم بالقوانين الوضعية، فتقضي بإلغاء

ما يخالف هذه القوانين من أحكامها؟ وكيف تنكر هذا القاضي الجليل للقوانين الوضعية وعلى رأسها القانون المدني، فرفض إبداء الرأي في نصوصه أصابت أو أخطأت، لأن خطأها وصوابها عنده سيان، طالما أنه لا يطبق شرع الله المتمثل بالقرآن والسنّة؟

لم أجد في تفسير هذا الموقف الغريب للمستشار الجليل سوى ما قرأته في دراسة تتضمن معالم النظام السياسي الإسلامي ومصادره والسلطات العامة فيه من "أن مهمة السلطة التشريعية تنحصر في تفسير وتوضيح وتطبيق ما تضمنته نصوص القرآن والسنة الصحيحة من أحكام".

ولا تملك هذه السلطة أن تنسخ حكما من الأحكام الأساسية، أو تبدله بغيره، ولكن تملك حق تفسير النص عن طريق الاجتهاد بما يتناسب مع الظروف الزمانية والمكانية (الدكتور فاروق النبهان نظام الحكم في الإسلام ص 436-437).

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.