بعيداً عن الخوص في كل التفاصيل المهمة والجميلة، فإن الانطباع الأول الذي يخرج به أي زائر لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب، وهو يحتفل باليوبيل الذهبي لانطلاقه، هو أن المعرض تظاهرة إبداعية ثقافية جماهيرية إماراتية وعربية وعالمية كبيرة، وأن إدارته استطاعت بشكل لافت أن تجعل منه رغم ازدحامه بأنشطته الثقافية المتعددة، مكان نزهة ثقافية تسر عين ونفس الزائر، بحيث يشعر كل من يدخله أن المكان يرحب به ويحتويه، سواء من خلال التنظيم الدقيق، أو اللافتات الترقيمية الواضحة، أو مراكز المعلومات، أو توزيع أماكن الأنشطة داخل المعرض، وفي كل هذا يبدو نصيب الطفل حاضراً، فهو رهان المستقبل الأهم.

Ad

نحو خمسمئة شخصية عربية وعالمية تحضر المعرض، بين مؤلف وناشر ومترجم وناقد وصحافي وإعلامي، وهذه الصيغة تجعل معرض أبوظبي للكتاب، المكان الثقافي العربي الأنسب لعقد الصفقات الإبداعية الثقافية الأدبية، سواء على مستوى النشر أو الترجمة.

إن معارض الكتب في جلها، تختصر نشاطها في عرض وبيع الكتب، لكن معرض أبوظبي خلق من النشاط الثقافي المصاحب اليومي المتجدد مجالا يوازي عرض وبيع الكتب، ما أضفى على المعرض نكهة خاصة، وانتقل به من خانة معارض كتب القرن الماضي، ليكون معرضا عالميا عصريا، يستحق بجدارة أن يحتذى به، ليكون نموذجاً لمعارض الكتب الحديثة في عموم المنطقة العربية.

هناك من سيعترض بأن البهرجة الزائدة تطغى على معرض أبوظبي، وأنا أقول إن "هذه البهرجة تأتي في مكانها، لتضيف للعمل الإبداعي والثقافي العربي رونقاً جميلا لا ضير فيه، ومن قال بضرورة أن يبقى الفقر والوجوم صفتين تلازمان الثقافة والمثقف؟".

كتاب مسابقة الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" حاضرون في المعرض وبين جمهوره، وكذلك استضافة الفائزين بجائزة الشيخ زايد للكتاب، بما يخلق جسراً مهماً بين الكاتب وجمهوره، ويدع للجمهور فرصة ذهبية للوقوف على عالم الكاتب بشخصه، ومعرفة عالمه الإنساني بكلمته وثقافته ووعيه الإنساني. وهذا كله يأتي بالإضافة إلى دورات ثقافية وفنية وإعلامية يومية، وبمعدل يصل إلى عشر جلسات. وبذلك ينتقل المعرض من دائرة الكتاب والقارئ ليدخل في دائرة الفعل الإنساني.

تكاد تختفي من مدن عالمنا العربي المكتبات الحقيقية المنشغلة في مد جسر بين الكتاب والقارئ، وبين المؤلف والقارئ، وصارت معظم المدن العربية تحفل بالقتل والدمار، أو المولات والأسواق الحديثة التي تعج بمحلات الماركات العالمية والمطاعم، وتفتقر حتى الألم لمكتبات كبيرة يجتمع من حولها الكاتب والناشر والكتاب. ففي الدول الأوربية والأميركية تلعب المكتبة وسوق الكتاب دوراً مهماً في حياة الإنسان، لكننا في وطننا العربي بالكاد نلمح مكتبة تؤكد تاريخها بفعلها الثقافي يوماً بعد يوم، وتكون معلماً للمكان والثقافة والإنسان، ويتربى أطفالنا وهم يشيرون إليها بوصفها مكاناً للعلم والثقافة والوصل بالآخر.

إن عالمنا العربي يعيش أوضاعاً مؤلمة، وهذه الأوضاع بقدر ما كشفت وحشية ودكتاتورية وجنون الحاكم، فإنها في جانب آخر، خفياً كان أو ظاهراً، كشفت الكثير من عورات معايشة الإنسان العربي لابن شعبه المختلف عنه في المذهب أو التوجه السياسي أو العقائدي، وكم يبدو الجرح عميقاً ودامياً، فالسنوات الماضية كشفت عن جنون كبير يعشش في وجدان الإنسان العربي، وعنف منفلت يساير خطوته، حتى ان البعض صار يتفنن بالقتل، ويستمتع بالتمثيل بالضحية، لذا لا أظن أنه قد بقي للشعوب العربية شيئاً تجتمع من حوله بقدر الفكر والأدب والفن الإنساني، ومؤكد أن معرض أبوظبي الدولي للكتاب، ومعارض الكتب العربية الأخرى، هي في القلب من هذه المتبقي.