كانتربري تنويع
جاءتني قبل أيام دعوة من مركز دراسات في جامعة كَنت كانتربَري، يُعنى بمحنة المهجرين، للمساهمة في قراءة شعرية، ضمن برنامج حافل بالمعالجات والمداخلات والعرض المسرحي والانشاد الشعري، يمتد من الساعة الثانية ظهراً حتى الثامنة. سافرت إليهم، واستأجرت غرفة في فندق، في قرية تبعد عن مدينة كانْتربري الصغيرة قرابة نصف الساعة بالسيارة مضطراً، طمعاً بالانصراف لرؤية المدينة العريقة في اليوم التالي. لأني لحظة الحجز عبر الإنترنت تبينتُ أن فنادقَ المدينة محجوزةٌ كلها يوميْ السبت والأحد. فالناس هنا تستثمر ساعات العطلة الأسبوعية على هذه الطريقة، وخاصة في مدنها التاريخية. وتحت عنوان "الشعر السياسي" قرأت مع من قرأ ثلاث قصائد بالانكليزية والعربية. لم أعترض، وأوضّح أنني لا أعتبر نفسي شاعراً سياسياً. ولعلي لا أُحسن فهم هذا المصطلح "الشعر السياسي" خارج حدود "التمركز في عقيدة" داخل سلطة الحكم أو خارجها، للدفاع عنها أو هجاء أعدائها. ولكن الكتابة الشعرية التي تصدر عن مسؤولية إنسانية، وعن الشغف بتحقيق أدنى قدر من الكرامة للانسان، لا يمكن أن تُعتبر كتابة سياسية. لأن هذه اليقظة باتجاه الانتصار للخير، والوقوف في وجه الشر ومحاربته أو فضحه، هي جوهر في الفاعلية الشعرية، وليست وليدة موقف سياسي، عادة ما يفتقد إلى البصيرة. هذا الموقف الأخلاقي هو لحم ودم الشعر في كل زمان، وكل مكان. ولا يمكن أن تُكتب قصيدة جيدة منتصرةً لضِعة، أو لوضيع.
ولكني تذكرت موجةَ المواقف الشعرية والنقدية العربية التي استحْلتْ إنكارَ الموقف الأخلاقي في الشعر: قصائد المتنبي عظيمةٌ حتى لو كانت رخيصةً من الناحية الأخلاقية. ولمَ لا تكون القصيدة التي مدحت صدام حسين رائعة من الناحية الفنية، أو الإبداعية؟ وخطت تلك المواقف مطمئنةً باتجاه فصل الشعر عن الاخلاق، بذريعة أن الشعر لغةٌ وليس معنى. ولكي نحسبهم على حق، تراهم يخلطون عن سوء طوية بين الشعر ذي الجوهر الأخلاقي، وبين الشعر الملتزم. مع أن الموقف الأخلاقي يتعارض في جوهره مع الموقف الملتزم بمبدأ أو رسالة. الموقفُ الأخلاقي بصيرةٌ تخترق حُجبَ الزمان والمكان المُضللة إلى علل الألم الانساني والمسرات الانسانية. إنه القلب الحاني، الكسير أو المتألق بفعل الرؤى المُعتمة أو المضاءة. ما من شاعرٍ عظيم إلا وهو إنسانيٌّ عظيم. وكذلك الشأن مع القصيدة. قضيتُ نهار اليوم التالي في مدينة كانتربري المُختصَرة في شارع للمُشاة رئيسي، وفي كاتدرائيتها الشهيرة. هذه المدينة بالغة الشهرة بسبب ارتباطها بأحداث مؤثرة على الصعيدين الديني والأدبي: القديس أوغسطين كان المؤسس في مطلع القرن السابع الميلادي، وله بقايا دير مازالت قائمة خلف الكاتدرائية، ثم هناك جريمة قتل ارتُكبت في قلب الكاتدرائية للقديس توماس بيكيت عام 1170 على يد جنود الملك هنري الثاني، حتى أصبح المكان محجاً تبدأ مسيرته من مدينة ساوثورك. مسيرة الحج هذه أملت على الشاعر الانكليزي الرائد جيفري تشوسر في القرن الرابع عشر، وهو ابن هذه المدينة، تحفتَه الشعرية "حكايات كانتربَري". وإليها ينتسب الشاعر والدرامي كرستوفر مارلو أيضاً، "صاحب دراما "دكتور فاوست" في القرن السادس عشر.داخل الكاتدرائية توقفتُ طويلاً عند الركن الذي قُتل فيه توماس بيكيت، واستعدتُ مسرحية الأميركي جان أنوي "بيكيت أو شرف الله"، والفيلم الرائع الذي أعد عنها(1961)، إخراج الانكليزي بيتر غلينفيل وبطولة بيتر أوتول وريتشارد بيرتون، ولقد شاهدناه في بغداد. كما استعدتُ الدراما الشعرية "جريمة قتل في الكاتدرائية" للشاعر تي أس أليوت، ولقد أعدت فيلماً أيضاً عام 1951، كما أُعدت أوبرا طليعية رائعة بالعنوان ذاته ألفها الايطالي "ألديبراندو بيزيتّي" عام 1958، ولقد عرضتُ لها حين صدرت DVD في عمودي هذا عام 2008. عدت بعد الظهيرة إلى لندن، وأنا أستعرض في رأسي بانوراما، لا يكفّ التاريخ فيها عن الهتك، ولا يكفّ الانسان فيها عن التضرع.