فجر يوم جديد : {اللقيط}!

نشر في 22-09-2014
آخر تحديث 22-09-2014 | 00:01
 مجدي الطيب لم أستطع التوصل إلى الحيثيات التي منحت لجنة تحكيم المسابقة الدولية للأفلام الروائية الطويلة في الدورة الثلاثين لمهرجان الإسكندرية السينمائي بمقتضاها الجائزة الكبرى للفيلم التونسي «باستاردو»، لكنني أيقنت أن لجنة تحكيم الدورة العشرين لمهرجان تطوان السينمائي الدولي كانت مُحقة عندما منحت الفيلم جائزتها الكبرى وقالت في حيثياتها: «نظراً إلى قيمته الجمالية والسينمائية المتميزة وحسن تناوله لقضايا اجتماعية متجذرة في المجتمع»، فالفيلم تحفة سينمائية بالفعل، ونجح في الجمع بين الحس الجمالي والرؤية التي لا تنفصل أبداً، عن هموم الواقع.

 مهمة صعبة أن تمزج بين الطرح الفكري وبين اللغة الفنية في عمل واحد من دون أن يطغى عنصرٌ على الآخر أو تتحول التجربة إلى «استعراض عضلات» لمخرج يريد أن يبرهن على أنه مُنظر وصاحب رؤية، وآخر يسعى إلى إبهار المتلقي بحركة الكاميرا، وقدرته على تكوين «الكادر»، والتحليق في تهويمات «تزغلل العينين». لكن المخرج التونسي الشاب نجيب بالقاضي، حقق المعادلة الصعبة في فيلمه «باستاردو»، إذ بلغ درجة عالية من الإتقان الفني، والسرد البصري، كذلك أظهر براعة فائقة في صوغ طرح فكري واجتماعي وسياسي اتسم بالثراء، بدليل أنك تستطيع تلقي الفيلم عبر أكثر من قراءة، نظراً إلى أنه يخاطب الجمهور على اتساع شرائحه، ووعيه، وخلفيته الثقافية.

«باستاردو» هو «اللقيط» أو «ابن الحرام»، والعنوان مأخوذ من الكلمة الإنكليزية BASTARD، وهو هنا البطل {محسن} (عبد المنعم شويات)، الذي عُثر عليه، وهو طفل رضيع، في مقلب للنفايات، في حي عشوائي. لكنك لا تملك النظر إلى ما يجري في الحي، بعدما شب الطفل عن الطوق ودخل في صراع مع آخرين، بوصفه دراما اجتماعية عادية، فالقراءة السياسية تجرك إلى شعور جازم بأن ثمة صراعاً على السلطة، وأن غواية التسلط سيطرت على النفوس في ظل سعي أصحابها إلى التحكم في مقدرات الناس مستغلة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتردية، والمتغيرات التي اجتاحت العالم، باسم {العولمة}، وتغير موازين القوى. فالهيمنة على الحي العشوائي، الذي يئن تحت سطوة الفقر والجهل، تنتقل من {لرنوبة} (الشاذلي العرفاوي) مفتول العضلات، الذي يعشق الأرانب لكن أمه {خضراء} قتلت في قلبه معنى الرحمة، وربته على القسوة والتلويح بالقوة كوسيلة لإخضاع الآخرين، إلى {محسن} ضعيف البنيان، الذي يتمتع برجاحة العقل والفطنة، بما يعني أن القوة اتخذت لها شكلاً عصرياً، عبر الهواتف النقالة، التي يتاجر فيها ويغزو عقول الناس من خلالها، ويتحول إلى {زعيم} بمقتضاها، ولأجل هذا لا يتردد في قطع الخدمة، بمجرد أن يلمح بذور تمرد أو انقلاب، فيعودوا إليه خانعين، ويدفعون الإتاوة صاغرين!

كل شيء محسوب لدى بالقاضي، الذي أنجز شريطه القصير {تصاور} (2005)، ثم الشريط الطويل { VHS كحلوشة} (2006)، فهو على دراية تامة بأبعاد تجربته، وحقيقة ما هو مُقدم عليه، لذا لا ينسى التنويه إلى أن {محسن} و}لرنوبة} صديقا طفولة، ونتاج بيئة واحدة، وإن تباينت الأدوار، واختلفت الثقافات، فالطموح إلى السلطة يجمعهما، ولكلٌ أسلوبه في الهيمنة والتلاعب بالمشاعر والتغرير بالبسطاء. وما يجري في الحي الشعبي، بهمه الإنساني، وواقعه المأزوم، لا ينفصل، مُطلقاً، عما يجري في بقاع كثيرة من العالم، بما يعني أن الفيلم يحمل طابعاً كونياً لا يمكن تجاهله، ويحمل في ثناياه رؤية تجمع بين الجدة والجدية والرصانة والإبداع التقني، الذي تجلى في التصوير، الإضاءة، الديكور والمونتاج فضلاً عن الأداء التمثيلي الذي أجبر لجنة تحكيم مهرجان الإسكندرية على منح بطلته لبنى نعمان جائزة أفضل ممثلة، ولولا أن لجنة التحكيم أرادت أن تُنصف الفيلم المغربي {الحُمى} فمنحت بطله ديدور ميشون جائزة أفضل ممثل لاستحقها الشاذلي العرفاوي، الذي جسد شخصية {لرنوبة} في فيلم {باستاردو} .

وظف بالقاضي الرمز لخدمة تجربته المثيرة، ونأى بنفسه عن أي تفصيلة عشوائية، فالحديث عن قردة البابونات، التي يتسم ذكورها بالأسنان الطويلة الكلبية، التي تُستخدم كالخنجر في التهديد والتخويف، يحمل إسقاطاً على مجتمع الحي العشوائي، وعدوانية، المهيمنين عليه، والفتاة الجاذبة للحشرات {بنت السنقرة} (لبنى نعمان) تمثل البراءة الضائعة، والحب المُجهض، والخلاص من هذا المستنقع الآسن (هي التي قتلت الدكتاتور مفتول العضلات)، وموت القط الذي يرعاه {محسن} فيه إيحاء بأنه على مشارف الموت، وهو ما حدث بالفعل، بينما ترمز {مرجانة} صاحبة متجر الأحذية الشهير إلى الأنثى التي تتلون، والواقع الذي يتغير، وتتغير معه المبادئ. فالفيلم اعتمد طريقة سرد متقنة، وتوافرت للعمل عناصر التشويق والإثارة، بغير ترخص أو ابتذال، والمزج بين الواقع والفانتازيا والرمز والإسقاط جاء في مكانه من دون افتعال أو لي لعنق الدراما، فانتفاضة الحي الشعبي، بعد استعانة {خضراء} ببلطجية من الحي المجاور لها مغزاها، واكتشاف {لرنوبة} أن {محسن} مات، بفعل ذبذبات محطة الهواتف النقالة، التي أفقدته بصره، وقيامه باحتضانه، والبكاء عليه، يؤكد أن {الطغاة} أشقاء وأخوة... وكلهم {باستاردو}!

back to top