نحن وأبو تمام

لا يمكن لأي مشروع ثقافي جاد أن ينهض ويستمر إلا بمتلازمتين لا غنى عنهما، الأولى أن يعايش زخم الحاضر وتبدلات اللحظة الحضارية الراهنة، والثانية أن يستشرف المستقبل ويصنعه بأكبر قدر ممكن من التفاؤل والتطلع. وأي انحراف عن هذين الشرطين لن يكون غير دوران في حلقة مفرغة من التكرار والهدر للمال والجهد.

وفي عالم مسكون بالصراعات الأيديولوجية والحروب السياسية يغدو الخيار الثقافي هو حبل النجاة الأمثل والأنجع لترميم جروح البشرية والمحافظة على نضارة الحياة وعنفوانها. ولهذا أستحدث مصطلح "القوة الناعمة" ليدلل على لون من التنمية البشرية/ الثقافية التي تهدف إلى إعادة ترميم نسيج الحياة وشدّ لحمة بقائه.

تلك الأهداف السامية (للقوة الناعمة) يراها المتأمل ولا شك في مشروع جاد وطليعي مثل مشروع "جائزة البابطين للإبداع الشعري"، الذي استطاع أن يقترب من شرطي المشروعات الثقافية الفاعلة. فهو من جهة يعايش الراهن المعيش من خلال حوار الثقافات الذي يشرع نوافذه على الآخر، تاركاً مساحة رحبة من التعايش والتبادل المعرفي والفني. وهو من جهة أخرى يبدو مشروعاً متطلعاً إلى المستقبل، ينطلق نحوه ليس بالتخطيط والتدبير فقط، وإنما أيضاً بالمراهنة على الرموز الثقافية ذات الهاجس الطليعي والنزعة التجديدية، لتكون أيقونات وعناوين لدوراته واحتفالياته.

تأتي هذا العام دورة "أبي تمام" لتعيد إلى الأذهان أثر هذا الشاعر في تجديد الخطاب الشعري العربي، ومحاولاته الإبداعية في تجاوز التقليدي والمكرر نحو المبتكر والغرائبي في اللغة والخيال. كان أبوتمام ببساطة شاعراً متطلعاً منطلقاً نحو المستقبل رغم عوائق الخطاب النقدي التقليدي الصارم في عصره. لقد أبى أن يسيّره الذوق النقدي السائد، فأدار بوصلته ليصنع مزاجاً آخر للشعر ولغة غير لغته وذوقاً نقدياً مغايراً. وبكلمة واحدة يمكن القول إن أبا تمام كان شاعراً حداثياً بمقاييس عصره وزمانه.

وحين يُتخذ أبوتمام أيقونة لهذه الدورة يمكن للمتأمل أن يدرك مغزى الاختيار، ويحدس بالرغبة في تمثّل تجربته وكدحه في تجاوز التقليدية البائدة، وحرصه على التطلّع للأفضل واستشراف المستقبل بتفاؤل، ودحر روح الانهزامية واليأس في الحياة والشعر. وكنتُ أعتقد وأنا بصدد حضور الأمسيات الشعرية كضيفة من ضيوف الاحتفالية، أن المنظمين للفعالية والشعراء المشاركين يدركون المغزى الجميل الذي يوحيه أبوتمام كرمز وأيقونة للحداثة والتطلّع والتفاؤل. ولكنني في الحقيقة أصبتُ بشيء من خيبة الأمل!

لن أقف طويلاً عند مسألة غلبة التقليدية في الشكل والمضمون على شعراء الأمسيات، فتلك مسألة قد تعود إلى الرغبة في إرضاء قطاعٍ ما من الجمهور والاستجابة لذوقه، أو لعلها توجه عام للمؤسسة يندرج تحت المحافظة على التقاليد وعراقتها. لكن ما يثير التساؤل حقاً هو ذلك الكم من روح الانهزامية وجلد الذات الذي عبّر عن نفسه في الأمسيتين الشعريتين، وذلك اللطم والعويل اللامنتهي على أحوال الأمة وهزائمها وانكساراتها، حتى لكأننا في مجلس عزاء لا ينتهي وبكاء لا ينضب. فالعراق ببلاءاته حاضر والقدس المستحيل حاضر وسيف صلاح الدين لايزال مكسوراً وصيحة "وامعتصماه" بلا صدى، والأقوال تتكسر فوق الأقوال، والبكاء على أطلال الحياة والشعر لايزال قائماً.

لا أعرف -على حدّ علمي- خطابات ثقافية/ إنسانية أخرى تبرع في جلد الذات والاستزادة من الانهزامية كخطاباتنا المعاصرة! فهذا اللون من التعبير الاستنزافي لقوى الإرادة لا نجده لدى الخطابات الثقافية في العالم الحي من حولنا، رغم اصطلاء تلك الأمم بويلات الحروب والانتكاسات الاقتصادية والسياسية.

أعتقد أن الأمل لايزال معقوداً على مؤسسة البابطين للإبداع الشعري والثقافي، بتبني خطاب متفائل ومتطلّع، ليس من خلال مضمون الشعر كمعمار معبّر عن الفن والهوية فقط، وإنما أيضاً من خلال استقطاب الطاقات الشابة سواءً في مجال البحوث الأدبية والنقدية أو مجال النص الشعري. فالإبداع لا يقف عند جيل أو مرحلة، والعالم من حولنا يستحق أن يُرى من زوايا أخرى أكثر جدةً وتفاؤلاً.